نُشرت في 6أبريل 2016
أمامك إذاً تياران في الثقافة مختلفان، يسيران كثيراً ينفصل أحدهما عن الآخر تمام الانفصال، ويلتقيان أحياناً عند أفراد قلائل، هما استمرار لثنائية التعليم التي بدأت في عصر محمد علي، فلا أعرف في تاريخ مصر الحديث يوماً يفوق في نحسه يوم أن ولي محمد علي ظهره للأزهر، وقد يقال يوم ولي الأزهر ظهره لمحمد علي، لا أحب أن أسأل هنا من منهما المسئول، ولكن كان من جرائر هذه القطيعة أن العلم القادم من اوروبا لم يدخل كما كان ينبغي صحن الأزهر وينبت فيه، ويتأقلم ويتطور منه وينتفع بهذه الأدمغة الجبارة التي يجود بها صعيد مصر، والتي لا أملك إلا أن انحني أمامها إجلالاً وإعجاباً بجلدها العجيب: التقفشف في طلب العلم، إذاً لأصبح تيار الثقافة واحداً لا اثنين.
سيمتد إلي وقت طويل مع الأسف فارق كبير بين من شرب من منهل الغرب وحده وبين من شرب من منهل الشرق وحده.
وفي 11 فبراير 1908 لم ينطفئ النور إلا قبيل الفجر في حجرة فتي طويل القامة، أجش الصوت، لا تموت الطفولة في قلبه طول عمره، هو ساهر مكب علي القراءة بنهم، لا يفرغ من كتاب حتي ينتقل إلي غيره. كان قد أنهي مبكراً تعليمه في المدارس وابتدأ ينشئ لنفسه مدرسة خاصة هو وحده تلميذها ومعلمها، فيضبط تفكيره طبقاً لقواعد المنطق الصارمة، ويهيم باستخلاص المبادئ وترتيب النتائج عليها. كان من نصيب هذا الشاب من بعد ان يمد شباب مصر بغذاء ثقافي متكامل – طبق من الشرق وطبق من الغرب – ثم يكتب قصة فريدة يشرح فيها بمشرط المنطق عاطفة الحب إلي ان يكشف دقائق الاعصاب الخفية.. هذا هو عباس محمود العقاد.
يقاربه في السن فتي اخر يختلف عن الباقين بأنه معمم، وأنه مكفوف البصر منذ طفولته، جاء هو الآخر من بلده في الصعيد لطلب العلم في الأزهر، كان أول أيامه بالقاهرة إذا خرج من بيته وتجاوز الباب، أحس عن يمينه حراً خفيفاً يبلغ صفحة وجهه اليمني، ودخاناً خفيفاً يداعب خياشيمه وأحس عن شماله صوتاً غريباً يبغ سمعه، ويثير في نفسه شيئاً من العجب، يسمعه وينكره، ويستحي أن يسأل عنه.. لم يعلم إلا فيما بعد انها الشيشة وقرقرتها.. سيحمل هذا الشاب فيما بعد علم الثورة ضد كثير من المسائل المسلم بها في الأدب، لا يهمه إثبات رأيه، بقدر ما يهمه إفساح المجال في حرية للفكر والمناقشة والجدل، سيهيم بالغرب وأساليبه في البحث، ويتمني لو اعتنقها أبناء قومه يسترد أدبهم الموروث علي يديهم جماله ومجده، انه ايضاً سيكتب اكثر من قصة يصور فيها قطاعات مختلفة من مجتممعه، ويأسر القلوب حين يتحدث، وهو يدور حول الرسول، أو وهو -لا يدور- عن نفسه..
يسألني اليوم بعض الشبان عن سر مكانة لطفي السيد ويعجبون أنهم لا يجدون له مؤلفات كثيرة، فلا أملك إلا أن أقول لهم: فضله – لا تنسوه – إنه أسس مدرسة ثقافية مصرية صميمة، مدرسة من الأفراد لا الكتب، هكذا فعل سقراط والأفغاني، يكفيه ان نبتت في أرضه أزهار مثل هيكل وطه حسين، وأنه ظل دائماً يلمع وسط غبار مثار من التملل والاستنقاص والرئاء المهين للنفس، رمزاً للتفاؤل الشديد بأصالة هذا الوطن ومستقبله وشبابه.
بل يذهب هيكل في حرصه علي استبقاء رباطه الروحي بمصر في غربته إلي حد أنه كان حين يبدأ الكتابة في الصباح المبكر – وهي ساعته المفضلة – يقفل أستار نوافذه فتحجب ضوء النهار ويضئ مصابيح الكهرباء كأنما يريد ان ينقطع عن حياة باريس ليري في وحدته وانقطاعه حياة مصر مرسومة في ذاكرته وخياله.. وأخيراً يكتب هيكل هذه القصة بعد تدبر غير قليل، وبتمهل محمود، ما بين ابريل 1910 ومارس 1911، وتصحبه في أسفاره بين باريس ولندن وجنيف فيجدد التنقل همته ويلون أسلوبه، وهذا تفسير ما تلحظه من التزامه لألفاظ معينة يكثر تكرارها في جزء من القصة دون بقية الأجزاء، وقد أمده جمال الطبيعة في أوربا بصفاء روحي، تدفقت بفضله عواطفه وانساق قلبه فإذا القصة القصيرة التي كان يعتزم تأليفها أول الأمر ينفسح أمام عينيه بجمالها وآفاقها، يقول: “أما حين كنت في سويسرا، فكثيراً ما كنت إذا بهرني منظر من مناظرها الساحرة، أسرع إلي كراسة زينب وأنسي إلي جانبها منظر الجبل والبحيرة والاشجار، وأستعيد مناظر ريفنا المصري ومجال خضرته النادرة..” ثم يغالط نفسه – ولا أتهمه بالنفاق!- حين يضيف: “فإذا بهري بهذه الريف المرتسم في خيالي لا يقل عن بهري بمناظر سويسرا”.
أما محمد تيمور فلا أعرف في أدبنا الحديث فتي مثله تفترسه حمي الفن، وحاجة ملحة للاهتزاز عليها، ما بين نظرته وتأثره وحركة قلمه تتابع الرعد والبرق، ليس له صبر هيكل علي التعمق، إنه لا يضم أزهاره في باقة كبيرة، بل ينثرها حالما يقطفها، في قلبه فيض يتدفق كالنافورة، فرحته بالتوثب والرقص ولو لحظه في النور هي غايته، ولا يهمه أن يضيع بعد ذلك بدداً.(..)
(..) ويسافر محمد تيمور لفرنسا لدراسة الحقوق فيسقط في امتحان السنة الأولي مرتين لانه يسكن حجرة تطل علي مسرح الأوديون ولا يتخلف ليلة واحدة عن غشيان المسارح، ثم يعود لمصر 1914 وتمنعه الحرب من السفر ثانية لفرنسا، ويشهد المجتمع المصري حادثاً هو في منطق ذلك العهد أمر جلل يكاد لا يصدقه العقل: وقوف محمد تيمور يمثل علي خشبة المسرح، حتي ولو كان هاوياً لا محترفاً. كل هذا وقلمه لا ينقطع عن جريه، كأنما يلهث في كتابة المسرحيات – مؤلفة ومترجمة – والقصص الصغيرة ومقالات في تاريخ المسرح والنقد المسرحي وفي قرض الشعر أيضاً.
انتهت هذه المرحلة بظهور توفيق الحكيم، ولو لم يظهر لبقيت القصة تدور في حلقة مفرغة، وأصبح مفهوماً بفضله، أن الأدب ليس هواية بل تخصصاً علمياً يحتاج بجانب الموهبة إلي دراسة منهجية وأنه هم الكاتب لا هم له سواه، بل صفته التي لا صفة له غيرها، وأن الكاتب هو رجل الفكر، يواجه المجتمع مواجهة القوي المتعادلة بعضها لبعض، فلم يكد توفيق الحكيم يفطن لموهبته حتي قسر لموهبته حتي قسر نفسه – حين أتاح له حسن حظه السفر إلي باريس – علي دراسة الأدب دراسة علمية، تبدأ باليونان: أدبهم وفلسفتهم، ثم تنحدر إلي عصره تلم بمختلف فنونه ولا تغفل في الوقت ذاته عن الأدب العربي القديم؛ ولا أعرف بين كتابنا المعاصرين من حذا حذوه سوي نجيب محفوظ، فإذا كتب بعد ذلك كان وراءه كل هذا المدد وعرف بفضله مكانه وموقع خطاه. فلم يكن مدعياً حين اتخذ سمة رجل الفكر المؤمن برسالته، وإذا قيل إنه بقي طول عمره – إلا فترة قصيرة – موظفاً؛ فالرد أن الناس لا يعرفونه إلا أنه الأديب لا الموظف. سيمهد توفيق الحكيم إلي ظهور الأديب الذي لا يقبل مع رسالته عملاً أخر، وإن قاسي من أجل ذلك الأمرين، فليفهم شبابنا هذا الكلام.
يحيي حقي – فجر القصة المصرية