نُشرت في 25 يونيو 2017
عزيزي الدكتور لويس عوض : هذا الخطاب كان من الممكن ان نتكلم في موضوعه شفوياً ونحن نتقابل. ولكني آثرته مكتوباً للتركيز. وأيضاً للتفكير فيه قبل المقابلة. فاختيارك لموضوع “العلمانية” الذي تكتب فيه اليوم هل ينبع من قلق معين؟… هذا ما خامرني فمستقبل مصر كما أفكر فيه الآن يدعو إلي القلق بالفعل. فالغوغائية، وخاصة فيما يمس ولو عن بعد منطقة الفكر والدين جعلت المفكرين مثلك يشعرون ببعد بلادنا عن “العلمانية” التي كانت معروفة في بلادنا في الماضي، نعيش في جوها ونتنفس هواءها.. فرجعت بكتابتك في هذا الموضوع إلي الماضي.. بالحنين أولاً، ثم بالحرية التي لن تتوفر. لكن إذا اتجهت بالموضوع إلي الحاضر أو المستقبل.. ولا تحاول الإقتراب من الحاضر أو المستقبل ليس خوفاً من السلطة، ولكن من الرأي العام وأقلامه.. لأن المتسلط اليوم علي الرأي العام والأقلام هي “الغوغائية” أي الحكم علي الأشخاص والأشياء بالإشاعة التي لا تعرف التفكير، لأن الإشاعة لسان فقط. وقد عرفت أنا منذ ظهور “عودة الوعي”. فقط انطلقت الإشاعة انه هجوم علي عبد الناصر مما ازعج حتي المرحومة زوجتي وهي علي فراش المرض، واستنكرت ذلك مني وهي تعرف مقدار حبي لعبد الناصر الذي أعلن في الداخل والخارج عن تقديره لي بمنحي قلادة الجمهورية التي لا تمنح الإ لرؤساء الوزارة ويلقبون بأصحاب المقام الرفيع ثم جاء السادات ومنحني هو الآخر قلادة النيل التي لا تمنح لغير الملوك ورؤساء الجمهوريات.. وكل هذا حدث من ثورة 1952، ولم يحدث من قبلها مثل هذا التكريم لأديب علي الإطلاق.. ولكن الإشاعة انطلقت بأن “عودة الوعي” ليس سوي اتهام لثورة 1952 وغرضي هو القضاء عليها والعودة إلي ما كان قبلها.. وهذا الكتاب هو بالفعل اتهام.. ولكنه في الحقيقة إتهام لنفسي.. لأني تنبهت إلي خطأ جسيم وقعت فيه، وما كان لمفكر حر ان يغفل عنه. وهو أن ثورة 1952 يهرتني بإنجازاتها الأولي، وحسبتها حققت أملي الذي نشرته في كتابي “شجرة الحكم” قبل ظهور هذه الثورة بسنوات بأن المنقذ لمصر من فوضي الحكومات الحزبية الفاسدة هو ظهور ثورة أخري شابة اسميتها “الثورة المباركة”. وكان ذلك في كتاب منشور وفي العهود المملوكية: عهد “فاروق” .. لم أفطن إلي أن “الثورة” ليست مجرد إنجازات.. كنا ننتظرر نحن القيام بها.. ولكنه جو نتنفس فيه.. وقد اتضح لنا شيئاً فشيئاً أن جو هذه الثورة الشابة هو “جو خانق”.. الهواء الذي نتنفسه يومياً يهبط إلينا من سلطة علوية.. حتي ما كنا نتمني الحصول عليه: الإصلاح الزراعي، السد العالي، الإشتراكية، التعليم، الإعلام، الكتب التي نقرؤها في الداخل، وما تأتي من الخارج، والأغاني التي نسمعها.. كل ذلك لا يصعد من الشعب كما كان الحال في الماضي، ولكنه يهبط من فوق.. من السلطة الحاكمة.. وكانت هذه السلطة ذكية فطنة تشم رائحة ما نريد، ثم تصنعه لنا هي نفسها وتلقي به إلينا.. ولما عرفت هذه السلطة اننا نتوق إلي الأحزاب القديمة، صنعت لنا ذلك في صورة تقبلناها بارتياح.. وأصبح الشعب يقول بدلاً من : “أنا وفدي” وآخر يقول: “أنا سعدي” ظهرت الصورة الجديدة في الشعب فأصبح البعض يقول : “أنا أهلاوي” والآخر يقول: “أنا زملكاوي”.. وإذا كان الشعب يتوق للتعلق بشخصية “كاريزما”.. فلتكن هذه الشخصية “أم كلثوم”… ولو كان رجل فكر لأدخلوه السجن وهكذا تلون المجتمع المصري بلون لا خطر فيه علي الثورة.. ولما خاف عبد الناصر علي زعامته من شخصية مصر القوية إذا اكتشفت خطره عليها، فإنه دعم هذه الزعامة باستنادها علي البلاد العربية وليس علي مصر وحدها.. وجعلها “العربية المتحدة” وجعل مصر القطر الجنوبي أي رجعنا إلي اسم مصر في الماضي عندما كانت خريطة مصر يكتب تحتها “القطر المصري” وكان اسم مصر فقط لا يُقبل بارتياح من السلطة العليا.. ثم جاء السادات وخاف علي زعامته هو ايضاً من اليسار في مصر ومن السوفييت الذين يعلن في كل مناسبة انه طردهم، فاتهمهم بالإلحاد.. وقوّي رجال الدين بالقوة الضخمة التي ظن أنها هي التي تحميه.. وهكذا أيضاً تلون المجتمع المصري بلون الهوس الديني.. وأصبحت ثورة 1952 بشطريها الناصري والساداتي شغلها الشاغل حماية نفسها للبقاء.. بوسائل ليست في مصلحة التقدم الفكري.. فالتقدم الفكري لا بد له من الهواء الطلق. فإذا كان هذا الهواء يأتي من نافذة تفتحها وتغلقها يد السلطة، فلا تقدم. والسلطة تخشي دائماً الهواء الطلق الذي يهز ستائر هيبتها ويهدد سبات سلطانها. وكذلك كانت ثورة 1952 تتوجس خيفة من المفكر أو المثقف الذي لا يضع فكره أو ثقافته تحت تصرفها وفي خدمة بقائها… فالجامعة المصرية التي كانت دائماً منبع آراء وقضايا وأساتذتها لهم صوت خارج أسوارها يؤثر في المجتمع، اقتصر النشاط فيها علي البرامج التعليمية وطبعها في كتب وملازم تدر الربح التجاري، كما اصبحت الدروس الخصوصية سلعة ذات عائد مالي يغري ويشغل بال الأساتذة عن أي قضايا فكرية.. كما فتحت أسواق الدينار والدولار في بلاد الثراء البترولي لكل من يريد الحصول علي شقة أو سيارة أو مدخرات.. كل ذلك موجود لا في مصر وحدها.. بل في كل بلاد المنطقة المشتركة في نظام حكم متشابه.. كيف دخل هذا النظام في بلاد الشرق الأوسط وفي المجتمع العربي في وقت واحد؟؟.. ولما كان جوهر هذا النظام هو السلطة ذات القبضة القوية الممسكة برقبة الفكر الحر، ولما كان الفكر الحر هو جوهر “العلمانية” فلا أمل إذن في استقرار “العلمانية” داخل هذه النظم. ثم جاء الخطر الأكبر وهو “الايديولوجية الدينية” التي نبتت لها مخالب تسعي إلي الإمساك بالسلطة السياسية الدنيوية.. وإذا كان المفكر الحر يستطيع مواجهة السلطة الهابطة إليه من السماء…؟ وهي أيضاً بطبيعتها لا تنسجم مع “العلمانية” وأقرب إلي الإنسجام مع السلطة العسكرية.. والعدو الأكبر عند السلطتين: الدينية والعسكرية هي أضعف السلطات وهي “العلمانية” أي الفكر الحر!
لذلك أنا غير متفائل.. وأرقب جهودك في سبيل إحياء العلمانية يا دكتور لويس وأرثي لك.. لأني أري مستقبل مصر والمنطقة كلها هو في زواج وامتزاج السلطتين القويتين : السلطة العسكرية وفي داخلها “الموتور المحرك” الايدلوجيا الدينية.. وإني لأسمع منذ الآن ان أغلبية الجيش قد سيطر عليه التدين.. بل ان المفكرين انفسهم مع الأسف.. سواء الجامعيون أو الأدباء والفنانون اصبحوا أكثر اقتراباً من المتدينين وأبعد شقة من العلمانيين.. وهذا ما لمسته بنفسي عندما نشب الخلاف أخيراً بيني وبين مشايخ الدين. فكر في هذا كله يا دكتور لويس وكلمني فيه عند اللقاء القريب إن شاء الله وشكراً.
توفيق الحكيم
الخلاصة:يا دكتور لويس: خلاصة قولي هو ان الطامة الكبري التي أصابت العلمانية في مصر وبما في البلاد العربية كلها بما لا أكاد أعرفه في أي حقبة تاريخية متشابهة في مصر.. هذه الضربة القاضية علي العلمانية هي ثورة 1952.. وذلك علي الرغم من حبي لزعمائها الذين كرموني لأنهم فهموا من هجومي علي الأحزاب في شجرة الحكم وتنبئي بالثورة المباركة ما يتفق وخطهم السياسي.. ولم يفهموا كما لم أفهم انا نفسي “الا متأخراً” أن هذه الثورة المباركة تخفي وراء ظهرها السكين الذي سوف يطعن الفكر الحر والعلمانية في الصميم.
د. لويس عوض، دراسات أدبية، دار المستقبل العربي