تمتد فترة حياة مجلة الكاتب المصري من أكتوبر 1945 إلي مايو 1948. المجلات المصرية القديمة جزء كبير من مهمتنا هنا في آثار أدبية، ولكن “الكاتب المصري”لها مكانة خاصة لأن رئيس تحريرها طه حسين. الفترة الزمنية لها أهميتها ومعانيها. بعد الحرب مباشرة. كانت المجلة عبارة عن موطئ قدم للثقافة المصرية في المشهد العالمي. وقبل أن تصبح مصر نفسها ساحة لمعارك عديدة. كانت فترة فكر وبحث حقيقي. نطلقُ علي افتتاحية طه حسين هنا “الافتتاحية الأسطورية” لأنها تمثل خلاصة فكره وتوجهاته، خلاصة كتاب “مستقبل الثقافة في مصر”، والتزامه الفكري الشخصي الظاهر في كل أعماله. ومنهجها وبرنامجها هي أيضاً جزء كبير من منهجنا وبرنامجنا هنا في المدونة. يمكننا أيضاً أن نطمح قليلاً فنقول أننا نود ان نكمل هنا العمل الذي بدأه طه حسين في الكاتب المصري.
محرر المدونة.
يٌقال إن الشعب المصري أول من كتب بالقلم، واتخذ الحروف رمزاً للكلام الذي يؤدي عن القلوب والنفوس والعقول ما يثور فيها من العواطف، وما يضطرب فيها من الأهواء، وما يخطر لها من الآراء.
وقد اتخذت هذه الدار من الكاتب المصري القديم اسماً لها وشعاراً، واتخذت هذه المجلة التي تصدرها هذه الدار من الكاتب المصري القديم اسماً لها وشعاراً أيضاً. وهذه المجلة تستمد برنامجها وسيرتها من تاريخ مصر القديم والحديث، ومن المهمة التي نهضت بها مصر منذ شاركت في الحضارة الإنسانية العامة.
فمصر بلد من بلاد البحر الأبيض المتوسط، أتاح لها مركزها الجغرافي أن تمتاز بين بلاد الشرق الأدني بثروتها وقوتها وثقافتها، وأتاح لها هذا المركز الجغرافي وما قدر لها من اعتدال الإقليم ألا تكون أثرة ومنحازة إلي نفسها ولا منقطعة الصلة بغيرها من أقطار الأرض قريبها وبعيدها، فهي تعطي مما عندها وتأخذ مما عند غيرها، وتقيم حياتها كلها علي هذا الأخذ والعطاء. وهي من أجل ذلك نهضت بمهمة التوسط بين الشرق والغرب في شؤون الثقافة والسياسية والاقتصاد.
سبقت إلي التعاون الثقافي مع الأمم المتحضرة القديمة ومع الأمة اليونانية خاصة، ثم مضت في هذا التعاون مع روما كما مضت فيه مع أتينا من قبل. ثم استأنفته مع دمشق وبغداد وقرطبة، وهي الآن تمضي فيه مع بلاد المشرق كله ومع بلاد الغرب كله تنقل إلي الشرق خير ما عند الغرب من المعرفة، وتؤدي إلي الغرب خير ما عند ا لشرق من تراثه الثقافي الخالد العظيم.
ولن تستطيع مصر أن تتحول عن هذا الطريق التي رسمه لها التاريخ، ولا أن تستعفي من هذه المهمة التي فرضتها عليها القرون. وهذه المجلة لا تريد إلا أن تكون أداة من أدوات مصر لتحقيق هذه المهمة، ووسيلة من وسائلها للنهوض بهذا الواجب الخطير.
فهي ستكون صلة ثقافية بأدق معاني هذه الكلمة وأرفعها بين الشعوب العربية أولاً وبين هذه الشعوب وأمم الغرب ثانياً.
ولكل أدب حي مقومان أساسيان، يكفل أحدهما له الثبات والاستقرار، ويكفل ثانيهما له النمو والتطور والارتفاء.
فهذه المجلة ستحرص أشد الحرص علي العناية بهذين المقومين للأدب العربي، فتعني بقديم هذا الأدب تدرس تاريخه وتكشف أسراره وتحيي آثاره. وتعني بالأدب الحديث الذي ينتجه الممتازون من كتاب الشرق العربي تذيعه وتدرسه وتنفده وتشجعه وتجعله غذاء لعقول العرب وقلوبهم وأذواقهم، وتهيئة لعقول غير العرب من أبناء الأمم الأخري المتحضرة بحيث يمكن أن ينتقل إلي اللغات الأوروبية المختلفة.
ولعل هذه المجلة نفسها أن تنقل مختارات منه إلي هذه اللغات وتذيعها في الشرق والغرب بين حين وحين، وتعني من هذا كله بالآداب الأجنبية، تعرفها إلي القراء العرب بالدرس والنقد أو التحليل، وتنقل إليهم منها أطرافاً صالحة ترجو أن يجدوا فيها النفع والمتاع.
وستأخذ هذه المجلة نفسها بقانونين لن تحيد عنهما مهما تكن الظروف. أحدهما الشدة علي نفسها وعلي كتابها وقرائها فيما تنشر وما تنقل من الفصول، فلن تقدم إلي قرائها إلا هذا الأدب الذي ينفق صاحبه في إنتاجه الجهد العنيف والوقت الطويل، وينفق قارئه في إساغته من الوقت والجهد مثل ما ينفق منتجه. فلن يعرض الادب العربي لخظر التفاهه والابتذال شئ كهذا الانتاج السريع، وهذا الاستهلاك السريع. فالأدب فن يحتاج كغيره من الفنون الرفيعة إلي أناه الكاتب وتأنقه واحتفاله، وإلي تمهل القارئ وتأمله وتدبره. ولا بد من أن تأخذ الأجيال العربية المعاصرة نفسها بالأناة في الانتاج الفني وفي الاستهلاك الفني أيضاً.
القانون الثاني هو الحرية الواسعة السمحة فيما تنشر وفيما تختار من آثار القدماء والمحدثين، ومن آثار الشرقيين والغربيين، لا تنظر في ذلك إلا إلي الفن الخالص وإلي قيم الثقافة العليا وما يحقق التعارف والتواصل بين الذين يمثلون هذه الثقافة من رجال الأدب والعلم والفن.
وهي تنظر إلي أمس، وتنظر إلي اليوم، وتنظر كذلك إلي غد. فستنشر ما يحيي الأدب القديم، وستنشر ما يقوي الأدب الحديث، ولكنها في الوقت نفسه ستعني بهؤلاء الشباب الذين يجربون أنفسهم ويحاولون أن يشاركوا في الانتاج الادبي، فستفسح لهم مكاناً رحباً بين صفحاتها، وستتلقاهم رفيقة بهم مشجعة لهم، ولكن قاسية عليهم في النقد والاختيار.
فالشباب في حاجة إلي التشجيع الخاص والرفق، ولكنهم في حاجة كذلك إلي التمرين والنقد. ويوشك التشجيع الخالص أن يكون تغريراً، كما يوشك النقد الملح المسرف في العنف أن يكون تثبيطاً للهمم. وخير الأمور أوساطها.
وستعني هذه المجلة بأن تعرض علي الشرقيين آثارهم عرضاً قوامه النقد الخالص للفن والحق. وبأن تعرض عليهم خلاصات حسنة للحركات الأدبية في أوروبا وأمريكا. لن تقصر عنايتها علي أدب دون أدب، ولن تؤثر باهتمامها ثقافة دون ثقافة، ولكنها ستفتح الأبواب
علي مصاريعها للتيارات الأدبية والثقافية من أي وجه تأتي وعن أي شعب تصدر وفي أي لغة تكون. ذلك لأن العلم والفن والأدب أمور تحب لنفسها، وتتلقاها القلوب كما هي، فلتسيغ منها ما تسيغ، وتنبذ منها ما تنبذ وتنتفع بها علي كل حال.
وكما أن هذه المجلة لن تؤثر بعنايتها شعباً دون شعب فهي، كذلك لن تؤثر بعنايتها فريقاً من أدباء العرب دون فريق. وهي علي هذه السماحة حريصة أشد الحرص، تريد أن ترفع الأدب عن هذه الخصومات التي تثيرها منافع الحياة العاملة العاجلة بين الناس. فهي إذن لا تنحاز إلي طائفة، ولا تتعصب لمذهب، ولا تقيد نفسها إلا بحقوق مصر والأمم العربية في الكرامة والعزة والحياة الصالحة التي لا يشوبها نقص ولا هوان.
هذه هي الغاية التي نسعي إليها، والوسائل التي نسعي بها، والعهد الذي نعطيه علي أنفسنا. ونحن واثقون بأننا سنجد من المثقفين كلهم في الشرق العربي كله ما يلائم هذه الغاية وهذه الوسائل وهذه النية الخالصة من ثقة وعون وتأييد.
الكاتب المصري