مقدمة المقدمة
هذه الرسالة ليست انحرافاً عن مصرية المدونة، بل تأكيداً لها، فالخروج إلي العالم سمة مصرية أصيلة. وكما يأتي في افتتاحية طه حسين الأسطورية التي نتخذها مرتكزاً: [[فهي تعطي مما عندها وتأخذ مما عند غيرها، وتقيم حياتها كلها علي هذا الأخذ والعطاء]].
في هذه الرسالة نحن في جامعة “بورتلاند” الامريكية نتابع رسالة الأستاذ الجامعي بيتر بوغوسيان، وللجامعات جزء كبير من اهتمامات المدونة خاصة الجامعات الأمريكية والأوروبية الغربية.
المقدمة
الأستاذ بيتر بوغوسيان من الأساتذة الذين تتابعهم وتهتم بهم المدونة، وهو من أساتذة الفلسفة الأمريكيين الممتازين، ونحن نعرفه منذ بداية شهرته الدولية عام 2017 مع حادثة [دراسات الشكاية]-[grievance studies affair]- التي أثارت أصدائها جلبة أكاديمية وجماهيرية بين المهتمين من القراء والنشطاء، واليوم يأتي الأستاذ بوغوسيان إلي واجهة الأهتمام من جديد بتقديمه لرسالة استقالة مفتوحة من جامعته، جامعة بورتلاند الموجودة في أقصي الشمال الغربي الأمريكي، وهي ليست من الجامعات التاريخية، وقد بدأت في العمل فقط بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لها رونق و رومانسية مكانية خاصة بها كأغلب مؤسسات التعليم العالي في أمريكا.
وتعد رسالة الأستاذ بوغوسيان هنا من الأهمية لأنها تشير إلي المدي المتشدد التي وصلت إليه حياة العقل في أمريكا. ونحن نذكر كلام الناقد الكبير هارولد بلوم منذ التسعينات حينما كان يشكو من غياب القيم الجمالية في دراسة الأدب وفي مجمل الدراسات الانسانية في الجامعات وقتها، وسيطرة القيم السياسية في تحديد أولويات الدراسة والبحث.
ولكن المتابع عن قرب للتوسعات في هذه الإتجاهات في السنوات الأخيرة، والتي بدأت للأسف من الأستطرادات البحثية في دراسات ما بعد الأستعمار والتي كان لكتاب إدوارد سعيد (الأستشراق) دور كبير فيها، يعرف المدي الفادح الذي ذهب إليه الأمر، الوضع الذي يجعل من كلام هارولد بلوم مجرد شكوي باهتة.
أنتجت شبكة نيتفليكس مؤخراً عملاً مسلسلاً من واقع هذه الخبرات اسمه (الكرسي The Chair) وهو مقدمة ممتازة لحالة الشلل التي أصابت العقل الأمريكي، برغم خجل المسلسل نفسه في التعبير فهو في النهاية يخضع للحسابات السياسية نفسها.
والمدهش في حالة الشلل هذه أنها قادمة من اليسار السياسي، وبدعم من الليبراليين، وقد تكون رد فعل مبالغ به ضد قلة التعليم والتطرف المضاد في الجانب الأخر لدي اليمين المحافظ والحزب الجمهوري، ولكن في النهاية هذه الحالة تؤثر في الجميع وتعبر المحيط الأطلنطي وتصيب العقل في مقتل، لهذا واجبنا أن ننتبه لحركتها جيداً من هنا وأن نعرف موقفنا منها وأن نحاول دائماً حماية استمرار الدفق الخصيب من وإلي عقولنا، وأن نحذر من حالة الجمود القادمة. لذا نحن نعتبر رسالة الأستاذ بوغوسيان هذه بمثابة تقرير أخير للأقلية.
وتبقي الإشارة أن الرسالة نُشرت أولاً في مدونة الكاتبة الأمريكية باري وايس.
محرر المدونة
———-
نص رسالة الأستاذ بوغوسيان
تمت الترجمة بإذن خاص من الأستاذ بوغوسيان إلي مدونة آثار أدبية
العزيزة العميدة سوزان جيفوردس
أكتب لك اليوم لأستقيل من منصبي كأستاذ مساعد الفلسفة بجامعة بورتلاند.
علي مدار العقد السابق، كانت لي الحظوة بالتدريس في هذه الجامعة. تخصصاتي الدقيقة هي التفكير النقدي، دراسات الأخلاق والطريقة السقراطية، كما أقوم أيضاً بتدريس فصول مثل العلوم والعلوم الزائفة وفلسفة التعليم. ولكن بالإضافة إلي استكشاف الفلاسفة الكلاسيكيين والنصوص التقليدية، قمت أيضاً بدعوة قطاع واسع من المحاضرين الضيوف للتحدث خلال صفوفي، من أنصار نظرية الأرض المسطحة، إلي المدافعين عن المسيحية، و المشككين بتغير المناخ إلي نشطاء احتلوا وول ستريت. أنا فخور بعملي.
لم أدع هؤلاء المتحدثين لأنني اتفق مع آرائهم، بالعكس، خلال هذه المحادثات الصعبة والفوضوية، شاهدتُ أفضل ما يمكن أن يحققه طلابنا: التشكك في المعتقدات مع احترام المعتقدين. محتفظين برباطة جأشهم خلال الظروف الصعبة، وحتي تغيير رأيهم.
لم أؤمن قط – ولا أؤمن الآن- أن الغرض من التعليم هو فرض استنتاج معين علي طلابي. بل سعيت لتهيئة بيئة التفكير النقدي، لمساعدتهم في الحصول علي أدوات الصيد والحرث للوصول لإستنتاجاتهم الخاصة. لهذا السبب صرت مدرساً، ولهذا أحب التدريس.
ولكن حثيثاً، جعلت الجامعة هذا النوع من الاستكشاف الثقافي مستحيلاً بأن حولت حصن التفكير الحر إلي مصنع للعدالة الأجتماعية مدخلاته الوحيدة هي دراسات العرق و النوع و امتثال الضحية، ومخرجاته الوحيدة هي الأنقسام والشكاية.
لا يتعلم طلبة جامعة ولاية بورتلاند كيفية التفكير. بل يتم تدريبهم علي ترديد المقولات الأخلاقية اليقينية الأيدلوجية. لقد تخلي أعضاء هيئة الكلية وإدراتها عن مهمة السعي إلي الحقيقة وبالمقابل دفعوا إلي عدم التسامح مع اختلاف الآراء والمعتقدات. مما أدي إلي نشوء ثقافة معادية أصبح يخاف الطلبة فيها من التعبير بحرية وصدق.
لقد لاحظتُ علامات عدم الليبرالية التي ابتلعت الآن البيئة الأكاديمية بالكامل منذ وقت مبكر خلال فترة وجودي في جامعة ولاية بورتلاند. شهدتُ طلاباً يرفضون التعاطي مع وجهات نظر مختلفة. الأسئلة الأكاديمية التي كانت توجه في فصول التنوع والتي كانت تتحدي الروايات المعتمدة، كان يتم نبذها علي الفور. أولئك الذين طلبوا أدلة لتبرير السياسات المؤسسية الجديدة اتهموا بارتكاب تجاوزات عنصرية. واتُهم أساتذة بالتعصب الأعمى بسبب إقرار نصوص تأسيسية كتبها فلاسفة تصادف أنهم كانوا أوروبيين وذكور.
في البداية لم أدرك مدي منهجية الأمر وظننت أنه بإمكاني مقاومة هذه الثقافة الجديدة. لذا بدأتُ بطرح الأسئلة. ما هو الدليل علي أن (صافرة الإنذار) و (المناطق الآمنة) يساهمان في تعليم الطلاب؟ لماذا يجب أن يكون الأنتباه العرقي هو العدسة التي من خلالها ننظر إلي دورنا كمعلمين؟ كيف قررنا أن “الأستيلاء الثقافي“ غير أخلاقي؟
علي عكس زملائي، طرحتُ هذه الأسئلة علناً وبصوت عال.
قررتُ دراسة القيم الجديدة التي اجتاحت جامعة ولاية بورتلاند والعديد من المؤسسات التعليمية الأخرى – قيم تبدو رائعة، مثل التنوع والإنصاف والإدماج، لكنها في الواقع قد تكون عكس ذلك تمامًا. كلما قرأت المزيد من المواد الأساسية الأولية التي أنتجها المنظرون النقديون، كلما اشتبهت في أن استنتاجاتهم تعكس افتراضات أيديولوجية، وليس أفكاراً مدققة قائمة على أدلة.
بدأت التواصل مع مجموعات الطلاب الذين لديهم مخاوف مماثلة وجلبت متحدثين لاستكشاف هذه الموضوعات من منظور نقدي. واتضح لي بشكل متزايد أن ظواهر عدم الليبرالية التي شهدتها على مر السنين لم تكن مجرد أحداثاً منعزلة، ولكنها جزء من مشكلة على مستوى المؤسسة.
كلما كنت أتحدث أكثر عن هذه القضايا، كان الانتقام الذي واجهته يزداد.
في وقت مبكر من العام الدراسي 2016-2017، قدم طالب سابق شكوي ضدي وبدأت الجامعة تحقيقًا بشأن الباب التاسع (تحقيقات الباب التاسع هي جزء من القانون الفيدرالي المصمم لحماية “الأشخاص من التمييز على أساس الجنس في برامج التعليم أو الأنشطة التي تتلقى مساعدة مالية فيدرالية”https://www2.ed.gov/about/offices/list/ocr/docs/tix_dis.html.) وجه لي الشاكي، وهو رجل أبيض، عددًا كبيرًا من الإتهامات التي لا أساس لها، والتي تمنعني قواعد السرية بالجامعة للأسف من المزيد من مناقشتها. ما يمكنني مشاركته هو أن طلاباً لي من الذين تمت مقابلتهم أثناء التحقيق أخبروني أن محقق الباب التاسع سألهم عما إذا كانوا يعرفون أي شيء عن ضربي لزوجتي وأولادي. سرعان ما أصبح هذا الاتهام المروع شائعة على نطاق واسع.
في تحقيقات الباب التاسع، لا توجد إجراءات قانونية واجبة، لذلك لم يكن لديّ إمكانية الوصول إلى الإتهامات التي أواجهها، أوالقدرة على مواجهة المُتهِم، ولم تتح لي الفرصة للدفاع عن نفسي. أخيرًا، تم الكشف عن نتائج التحقيق في ديسمبر 2017. فيما يلي الجملتين الأخيرتين من التقرير: “وجد قطاع التنوع العالمي والإدماج أنه لا يوجد دليل كافٍ على انتهاك بوغوسيان لسياسة التحرش والتمييز المحظورة في جامعة ولاية بورتلاند. يوصي القطاع بأن يتلقي بوغوسيان التدريب “.
ليس فقط أنه لم يكن هناك اعتذار عن الاتهامات الكاذبة، بل أخبرني المحقق أيضًا أنه في المستقبل لم يعد يُسمح لي بإبداء رأيي حول “الفصول المحمية“ أو التدريس بطريقة يمكن أن يُعرف بها رأيي حول الفصول المحمية – خاتمة غريبة لإتهامات سخيفة. يمكن للجامعات أن تفرض التوافق الأيديولوجي فقط من خلال التهديد بهذه التحقيقات.
في النهاية، أصبحت مقتنعًا بأن البني الأكاديمية الفاسدة كانت مسئولة عن تبرير الابتعاد الجذري عن الدور التقليدي لمدارس الفنون الليبرالية ومبادئ التحضر الأساسية في الحرم الجامعي. كانت هناك حاجة ملحة لإثبات أن أبحاث الموضوعات الرائجة- مهما كانت سخيفة – يمكن نشرها. اعتقدت حينها أنني إذا كشفت العيوب النظرية لهذه المراكمات الأدبية، فيمكنني مساعدة مجتمع الجامعة على تجنب بناء الصروح على مثل هذه الأرض المهتزة.
لذلك، في عام 2017، شاركت في نشر ورقة بحثية مشوهة عمدًا تمت مراجعتها من قبل الأقران والتي استهدفت العقيدة الجديدة. عنوانها: “القضيب المفاهيمي كبناء اجتماعي”. هذا المثال من الدراسة الزائفة، التي نُشرت في مجلةCogent Social Sciences ، جادلت بأن القضيب هو نتاج للعقل البشري ومسئول عن تغير المناخ. بعد ذلك مباشرة، كشفتُ عن المقالة على أنها خدعة مصممة لتسليط الضوء على عيوب أنظمة النشر الأكاديمية ومراجعات الأقران.
بعد ذلك بوقت قصير، بدأ اسمي يظهر تحت رسم للصليب المعقوف في حمامين بالقرب من قسم الفلسفة. كما أنه كان يظهر أحيانًا على باب مكتبي، وفي إحدى المرات مصحوباً بأكياس من البراز. جامعتنا ظلت صامتة. وعندما تحركت، كانت ضدي وليست ضد الجناة.
واصلت الاعتقاد، ربما بسذاجة، أنه إذا فضحت التفكير المعيب الذي قامت عليه القيم الجديدة لجامعة ولاية بورتلاند، يمكنني أن أزعزع الجامعة من جنونها. في عام 2018، شاركت في نشر سلسلة من المقالات السخيفة أو البغيضة من الناحية الأخلاقية التي راجعها الأقران في الدوريات التي ركزت على قضايا العرق والجنس. جادلنا في إحداها بأنه كان هناك وباء لاغتصاب الكلاب في حدائق الكلاب واقترحنا أن نقيد الرجال بالطريقة التي نقيد بها الكلاب بالطوق. كان هدفنا هو إظهار أن أنواعًا معينة من “الدراسات” لا تقوم على اكتشاف الحقيقة ولكن على تعزيز المظالم الاجتماعية. هذه النظرة إلى العالم ليست علمية وليست مدققة.
كان المسئولون وأعضاء هيئة التدريس غاضبين للغاية من الأبحاث لدرجة أنهم نشروا مقالاً مجهولاً في الصحيفة الطلابيةورفعت جامعة ولاية بورتلاند اتهامات رسمية ضدي. اتهاماتهم؟ “سوء السلوك البحثي” استنادًا إلى الافتراض السخيف بأن محرري الدورية الذين قبلوا مقالاتنا المشوهة عن قصد كانوا “مثال تجارب بشرية”. تمت إدانتي لعدم الحصول علي موافقة مسبقة قبل إجراء تجارب على البشر.
في غضون ذلك، استمر التعصب الأيديولوجي في النمو داخل جامعة ولاية بورتلاند. في مارس 2018، قاطع أستاذ مثبت بالجامعة مناقشة عامة كنت أجريها مع الكاتبة كريستينا هوف سومرز وعلماء الأحياء التطورية بريت وينشتاين وهيذر هيينج. في يونيو 2018، أطلق شخص ما إنذار الحريق أثناء حديثي مع الناقد الثقافي الشهير كارل بنجامين. في أكتوبر 2018، سحب ناشط أسلاك مكبر الصوت لمقاطعة مناقشة مع مهندس جوجل السابق جيمس دامور. لم تفعل الجامعة شيئًا لوقف أو معالجة هذا السلوك. لم يتم معاقبة أو تأديب أحد.
بالنسبة لي، اتسمت السنوات التي تلت ذلك باستمرار المضايقات. كنت أجد منشورات حول الحرم الجامعي لي مع أنف بينوكيو. أحد المارة بصق عليّ وهددني أثناء ذهابي إلى الفصل. أبلغني الطلاب أن زملائي كانوا يطالبونهم بتجنب فصولي الدراسية. وبالطبع خضعت لمزيد من التحقيقات.
كنت أتمني أن أقول إن ما أصفه لم يكن له أثر شخصي عليّ. لكنه تسبب بالضبط في الخسائر التي كان يُقصد بها: حياة عملية لا تطاق بشكل متزايد وبدون حماية التثبيت الجامعي.
هذا ليس أمراً فردياً يخصني وحدي. هذا يتعلق بنوع المؤسسات التي نريدها والقيم التي نختارها. كل فكرة عززت حرية الإنسان تمت إدانتها دائمًا، وبدون استثناء، في بدايتها(https://plato.stanford.edu/entries/galileo/). كأفراد، غالبًا ما نبدو غير قادرين على تذكر هذا الدرس، ولكن هذا هو بالضبط الغرض من مؤسساتنا: لتذكيرنا بأن حرية طرح الأسئلة هي حقنا الأساسي. يجب أن تذكرنا المؤسسات التعليمية بأن هذا الحق هو واجبنا أيضًا.
لقد فشلت جامعة ولاية بورتلاند في أداء هذا الواجب. بفعلها ذلك، فقد خذلت ليس فقط طلابها ولكن الجمهور الذي يدعمها. بينما أنا ممتن لإتاحة الفرصة لي للتدريس في جامعة ولاية بورتلاند لأكثر من عقد، فقد أصبح واضحًا لي أن هذه المؤسسة ليست مكانًا للأشخاص الذين يعتزمون التفكير بحرية واستكشاف الأفكار.
هذه ليست النتيجة التي أردتها. لكني أشعر بأنني ملزم أخلاقيا بإتخاذ هذا الاختيار. لمدة عشر سنوات، علّمت طلابي أهمية العيش وفقًا لمبادئك. أحد مبادئي هو الدفاع عن نظام التعليم الليبرالي الخاص بنا ضد أولئك الذين يسعون إلى تدميره. من سأكون إذا لم أفعل؟
بإخلاص،
بيتر بوغوسيان