أدهشتنا رسالة منشورة علي موقع فيسبوك بعنوان توفيق الحكيم : رسالة إلي الله، يدعي فيها ناشرها سطوراً ناشزة منسوبة إلي الأستاذ توفيق الحكيم يكلم فيها ربه بأسلوب أقل ما يوصف به أنه منحط فكراً وأسلوباً، وأدهشنا أكثر أن مثقفاً مصرياً كبيراً علق علي هذه الرسالة بقوله “ما أروع توفيق الحكيم.” !! وقد احتاج الأمر منا بعض البحث للوصول إلي النص الحقيقي لمناجاه توفيق الحكيم لربه والمنشور في كتاب “الأحاديث الأربعة” سنة 1983.
وبقراءة الكتاب تأكد لدينا زيف الرسالة المذكورة سابقاً، الأمر الذي لم يكن يحتاج لتأكيد كبير، وإن كانت الرسائل الحقيقية الثلاثة الأولي قد أثارت شجناً حزيناً لدينا ففيها يُظهر العقل الأوروبي الجبار خوفاً وانكماشاً واضحين في شيخوخته.
إلا أن الرسالة الرابعة هي ما استأهلت وقوفنا، ففيها استعادة لرشاقة العقل، وخروج إلي نافذة الفكر مرة أخري بعد سكون التأمل في الرسائل الأولي، وفيها يسرد الحكيم قصصاً تستأهل المزيد من البحث حول كرسيه بمجمع اللغة العربية وتقاطعه مع ثلاثة رجال كلهم مثيرين للاهتمام، عبد الحميد بدوي، عبد العزيز فهمي، واصف غالي، ولم يخل الأمر طبعاً من مشاكسة طه حسين كلما لاحت فرصة!
محرر المدونة.
———-
توفيق الحكيم
الحديث الرابع
في شبابي.. كنت كثير الإقامة في مسجد السيدة زينب.. أصلي وأطلب معاونتك لي في الدراسة، وفي كل شئوني.. إني لا أكتمك شيئاً.
وحدث أيضاً في هذا المسجد أني قمت بالتمثيل.. إي والله.. مرة واحدة.. كنا في سنة 1919.. وكنا نحن الشباب ننوي القيام بمظاهرة ضد الإنجليز.. ولاحظنا أن بعضاً من زملائنا يهم بالتسلل لعدم الاشتراك في المظاهرة، فجمعناهم في المسجد وأغلقناه علينا إلي حين موعد المظاهرة.. وخفنا أن يتطرق الملل إلي المنتظرين.. فأقترح أحدهم أن نشغلهم بشئ يلهيهم، وكانوا يعلمون أني من هواه فن التمثيل، فصاحوا يطلبون مني فصلاً مسرحياً، فقمت أنا وصديق لي من الهواة ومثلنا مسرحية “لويس الحادي عشر” وقمت أنا في دور “لويس” أصيح في القائم بدور ” الكونت نيمور” الثائر ضد الملك لويس.. ولويس، أي أنا، أهدده بقولي: “إياك واللعب بالنار يا كونت”.. وكنت أتوقع تصفيق الإعجاب من المشاهدين، وإذا بي أقابل بالوجوم البارد، والصياح بطلب فصلاً مضحكاً وكان لابد من القيام بالفصل المضحك.. فقمت به.. وما كدت أنتهي حتي دوي تصفيق الاستحسان من أرجاء المسجد.. فتكدرت كدراً شديداً.. ولعنت التمثيل والمشاهدين الذين صفقوا للهزل وتركوا الجد.. ولم أعد لها بعد ذلك.
واندمجت في سماع التلاوة من الشيخ ندا أشهر القارئين في ذلك العهد.. خاصة في سورة الكهف يوم الجمعة.. ولعلها رسبت في خاطري منذ ذلك الحين، إلي أن جسدتها في تمثيلية بعد عشر سنوات هي “أهل الكهف”.
وقد دفعتني يا ربي إلي شئ آخر.. الحمد لك يا ربي.. فقد كان التمثيل وقتذاك في بدايته غير محترم.. دفعتني إلي طريق الأدب، وأدخلتني المجمع اللغوي.
ولكني أنا اعتذرت عن دخوله أول الأمر مما أغضب رئيسه أحمد لطفي السيد وقال: “كيف يرفض الكرسي الذي يسعي إليه كثيرون؟!”
ثم وضعتني أنت بإرادتك في كرسي “عبد العزيز فهمي” .
وأنا في الحقيقة أحب هذا الرجل وأكرهه.. ولقد أشدت به في حفلة الاستقبال، لأنه أحد الثلاثة الذين طالبوا الانجليز باستقلال مصر: سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، وعلي أثر ذلك قامت ثورة 1919.
ثم لأنه اتصف بالشجاعة.. ولذلك قلت في كلمة استقبالي مخاطباً أعضاء المجمع: “لقد وضعتموني مشكورين في كرسي مخيف، كرسي رجل من أشجع رجال مصر في التاريخ المعاصر هو: عبد العزيز فهمي.. والشجاعة عند عبد العزيز فهمي وسيلة لغاية أسمي وأشرف هي : “الحرية” ، والحرية عند عبد العزيز فهمي هي حياته.. هي لحمه ودمه.. هي فكره وروحه.. هي علمه وجهاده.. طلب الحرية للوطن.. وطلب الحرية للفكر.. وطلب الحرية للغة، فلا عجب إذن إذا اعتقدت أنا أن هذا الكرسي الذي اقترن باسم عبد العزيز فهمي هو “رمز الحرية”.
ولكن هذا الكرسي كان قد آل إلي رجل آخر هو “واصف غالي”.
واعتذر واصف غالي لاعتقاده أنه بعيد عن اللغة العربية، وعن البلاد، لأنه يقيم في فرنسا باستمرار… فانتخبتُ في كرسيه، ولما كانت استقالته قد تمت قبل استقباله وإلقائه كلمة التنويه بسلفه عبد العزيز فهمي، فقد أصبح الموقف محيراً وبلا سابقة، وهو حظي في الوقوع في المواقف المحيرة دائماً، فاستشير في هذا الموقف عضو المجمع وفقيه مصر القانوني “عبد الحميد بدوي” فأفتي بأن أعتبر خلفاً لكرسي الإثنين، وأن أضمن كلمتي تنويهاً بالاثنين معاً… ووصفت هذا الكرسي بأنه “رمز للحرية” ومضيت في كلمتي قائلاً: هذا الاعتقاد عندي دعمه وقواه الرجل التالي الذي آل إليه هذا الكرسي. الرجل التالي هو : “واصف غالي” وواصف غالي هو أيضاً – ولعلها مصادفة عجيبة – رجل من رجال الحرية : جاهد هو الآخر في سبيل حرية بلاده (باعتباره من الرعيل الأول في الوفد المصري)، وحافظ ما استطاع علي حرية حياته، ولئن كان قد ترك هذا الكرسي – والمجمع أحوج ما يكون إلي علمه وأدبه – فقد فعل ذلك مدفوعاً بدافع الحرية التي أحبها والتي أرادت له أن يقيم حيث يشاء، وأن يخدم وطنه وأدب وطنه علي النحو الذي يحسنه ويتفق مع مواهبه… ولقد خدم فعلاً الأدب العربي خدمة جليلة، فهو بفضل تمكنه من اللغة الفرنسية أسلوباً وصياغة فقد استطاع ان يبصر الغربيين بما في الأدب العربي من روائع لم يفطنوا إليها، ولم يقدروا قدرها. فنشر في باريس منذ سنة 1913 كتباً ثلاثة، هي : “تقاليد الفتوة عند العرب” و “حديقة الأزهار” و “الدر المنثور”… كتب نقل بها إلي الغرب فضائل الفكر العربي نقلاً مبيناً مشرفاً جعل ناقد فرنسا المشهور في ذلك الوقت “جول ليمتر” يقول وهو شديد الإعجاب: “إن الشعر العربي في مجال الإحساس والشعور أنقي شعر عرفه الإنسان. فالأمانة والصدق والشهامة والصداقة واحترام المرأة، وقري الضيف والكرم، وعظمة النفس، والبطولة والفخر، هي بعض ما يتغني به وبعير عنه هذا الشعر العربي، وهو ما يسمو به فوق شعر الأمم الأخري فحولة ونبلاً.”
هذا بعض ما فعل واصف غالي، فرفع شأن الأدب العربي في بلاد الغرب.. وهو لم يزل هناك يواصل خدماته الجليلة في هذا السبيل، تاركاً كرسي عبد العزيز فهمي يؤول إلي شخصي الضعيف بميراثه الضخم من فاخر الأعمال، وما انطوي عليه من معني ورمز للوحدة الوطنية.. وشغله بمن ينتمي إلي الإسلام ومن ينتمي إلي المسيحية، كما شاءت إرادتك ياربي أن تجمع بين محمد (ص) ومارية.
وشاء كرم الله أن يترك لي هذا الكرسي ويترك لي معه مهمة الكلام عن صاحبه الأول العظيم، وهي مهمة خلتها عسيرة أول الأمر، وإذا هي في الواقع لن تكلفني جهداً.
فتاريخ عبد العزيز فهمي معروف لكم جميعاً، لأنه تاريخ مصر في جهادها السياسي وجهادها الفكري : أما جهادها السياسي فموقف عبد العزيز فهمي منه خالد علي الدهر، فهو أحد الثلاثة الذين ثاروا لحرية البلد، وصاحوا في وجه المستعمر تلك الصيحة التي أيقظت الوطن.. أما تاريخ مصر الفكري، فموقف عبد العزيز فهمي منه باق أيضاً لا ينسي : فهو الذي ثار لحرية الفكر في قضية علي عبد الرازق وكتابه عن الإسلام وأصول الحكم، وقضية طه حسين وكتابه عن الشعر الجاهلي.. كل هذا معروف لكم أيها السادة.. ولا محل هنا للإطناب فيما هو منقوش في الأذهان.. حسبنا أن نستخلص من هذا التاريخ صفة عبد العزيز فهمي وهي روح الثورة من أجل الحرية.. حرية الوطن، وحرية الفكر.. إلي أن جاء هنا في هذا المجمع، فاستيقظت فيه مرة أخري روح الثورة من أجل حرية جديدة رآها في حاجة إلي صيحته وشجاعته: تلك هي حرية اللغة.. فلم يكد عبد العزيز فهمي يستقر في هذا الكرسي بمجمعكم حتي لاحظ أن اللغة العربية الجليلة في بيانها، العريقة في قدمها، تكاد تعتل وتمرض لطول ما أغلقت عليها النوافذ، خوفاً علي صحتها، ومحافظة علي سلامتها.. رآها كالعجوز المقيدة في خلاخيلها ودمالجها، الحبيسة في حجرة من التقديس، لا يدخلها هواء الحياة ولا شمس العصر، خشية عليها من تقلب الجو… فنهض فارس الحرية، وأراد أن يمد يده إلي النوافذ يفتحها لنسائم التجديد، وهو يقول في ذلك: “إن اللغة كائن كالكائنات الحية، ينمو ويهرم ويموت، مخلفاً ذرية لغوية متشعبة الأفراد، هي أيضاً في تطور مستمر.. ولم يستطع قوم للآن أن يغالبوا هذه الظاهرة الطبيعية.. فإن التطور يكبح شراسة من غالبه”
إيمان عبد العزيز فهمي بالتطور، أي بالتجدد وهو شيخ في الثمانين يدل علي أنه كان رجلاً عظيماً حقاً.
وعندما أقول إنه عظيم لا أعني المعني المبتذل، بل أعني المعني العميق للكلمة، ذلك أن من صفات العظمة شباب التفكير، أي الإحساس بالتجدد، أي مغالبة الزمن، أي سبق العصر.. كل العظماء بلا استثناء كانوا مجددين أي سابقين لعصورهم، مغالبين للزمن والهرم والجمود، لأن عظمة الإنسان هي في الانتصار علي الزمن، وخير مظهر للانتصار علي الزمن هو شباب الفكر الدائم، وتطور التفكير المستمر.
ولنمض في الإصغاء إلي عبد العزيز فهمي، وهو يتكلم عن التجديد والتطور في اللغة، قال: “إن رسم الكتابة العربية هو الكارثة، إنه رسم لا يتيسر معه قراءتها مضبوطة حتي لخير المتعلمين.. وخطر بفكر أحد زملائنا أن يعالج المسألة من جهة الإعراب، وذلك بحذف حركاته وتسكين أواخر الكلمات.. وقد قرئت آيه: (ويضيق صدري ولا ينطلق لساني) مثلاً في القرآن الكريم بتسكين القاف في الكلمتين.. وهكذا يمضي عبد العزيز فهمي في بيان صعوبات اللغة العربية التي تعرقل انتشارها.. وقد أدركها القدماء أنفسهم، وكان عبد الملك بن مروان يقول: “شيبني ارتقاء المنابر وتوقع اللحن” وكانوا يقولون: “سَكِّن تسلم” وقال ابن الأثير في كتابه : “المثل السائر” : “إن الإعراب ليس شرطاً للبلاغة، وليس اللحن قادحاً في حسن الكلام”. وقال مثل ذلك ابن خلدون الذي رأن الوقف لا يجافي البلاغة.
ولكن عبد العزيز فهمي أراد أن يحل العقدة بسيف شجاعته فقدم اقتراحه المشهور بترك الحروف العربية واتخاذ الحروف اللاتينية.. وأذكر أني وافقته في ذلك الوقت، فتفضل رحمه الله وزارني في مسكني، وكان يومئذ حجرة في نزل بأعلي عمارة.. فأشفقت علي شيخوخته من الصعود، وأسرعت إليه وهو في سيارته وركبنا معاً، وجعل يشرح لي نظريته وأنا أوافق، ولا يخطر علي بالي أني ساكون يوماً في موضعه من هذا الكرسي وأواجه الناس علناً بهذا الرأي الخطير، الذي لا يمكن الدفاع عنه.
وإن كنت مستعداً للدفاع عن الرأي الآخر الأبسط، وهو تبسيط قواعد النحو وتيسير القراءة والكلام بغير تعثر ولا تفكير.. والتطور في رأيي سيبدأ بداية لطيفة مقبولة: وهي أن الفصحي ستحتفظ بخير ما فيها، وستستعير من العامية خير ما فيها.
ولكني أكره من عبد العزيز فهمي أشياء:
أولاً عبارة أدهشتني منه هو بالذات، قالها أثناء أن كنا معاً في سيارته يقوم بشرح نظريته في اللغة، قال إنه ذهب إلي البرنس محمد علي ولي العهد ليحادثه بشأنها، وقال له بالنص الذي أدهشني: “أنتم يا صاحب السمو أسيادنا وأولاد أسيادنا” رنت هذه العبارة في أذني ولم أستطع نسياتها.
ولكن بطرح الدهشة، وبالدراسة الموضوعية، وبالتفكير المتأني ظهر لي أن الأمثلة كثيرة لذلك:
ففي فرنسا كاتب الحرية الأكبر “فولتير” كان يعيش في كنف ملك أجنبي.
وفي ألمانيا كان “جوته” العظيم وثيق الصلة بالقصر الملكي.
وشاعرنا العربي المتنبي مع سيف الدولة.
وفي مصر علمت من طه حسين أنه كان يرسل النسخة الأولي لكتبه إلي السراي الملكية.
والعقاد الذي سجن لموقفه الشامخ من الملك فؤاد له قصيدة أمام الملك فاروق عندما زار العامرية، والعقاد ممثلاً لها في البرلمان.
إذن العلاقة بين رجل الفكر ورئيس الدولة مسألة شخصية لا تؤثر في حرية فكر المفكر، ولكننا اعتدنا أن نرفع من نحب إلي مثل أعلي شبه معصوم، وأن نخفض من نكره إلي حضيض مجرد من كل مزية.
الأمر الثاني الذي لا أغتفره له هو أنه السبب في هدم وحدة الحركة الوطنية بالانشقاق علي الوفد المصري بحجه أن سعد زغلول كان يستبد برأيه، ولولاه لأصبح الوفد المصري مستمراً كما استمر حزب المؤتمر في الهند.
ولكن عبد العزيز فهمي كان عصبي المزاج، فلم يستطع التماسك والصبر علي ما لا يعجبه ليتحاشي الانشقاق والانقسام.
لم أذكر ذلك طبعاً في كلمة الاستقبال بالمجمع، لأن من تقاليد المجمع أن تكون الكلمة للتنويه بصاحب الكرسي، سواء القديم أو الجديد.. والقديم ينوه به الجديد، أما الجديد فيستقبله من رشحه.. إلا في حالتي: فقد حدث أن الذي رشحني كان أحمد أمين ومعه الدكتور منصور فهمي، بينما الذي استقبلني لم يكن أحدهما.. فقد حصل أن اتصل لي تليفونياً الدكتور طه حسين وسألني: هل لدي مانه من أن يكون هو الذي يستقبلني؟ فوافقت لعلمي بحرص طه علي تقديم واستقبال من يختارهم، وقد سبق أن اختار هو استقبال وتقديم الدكتور عبد الحميد بدوي باشا، مع أنه رجل قانون.. وقد تكلم طه حسين عني منوهاً بكرمي.. ونافياً عني صفة البخل التي ألصقت بي.. وعلمت بعد ذلك أنه أشاع أني غضبت من كلمته لإعلانه أني كريم!
تمت الاحاديث الأربعة
من كتاب الأحاديث الأربعة 1983.