كتب البرفيسور برونو لاتور، الفيلسوف الفرنسي وأستاذ علم الأجتماع المتخصص في الفلسفة الحديثة، مخطوطة ممتازة لمعالجة القضايا الرئيسية في العالم اليوم، برشاقة وخفة لا تخلو من عمق وتمكن، وهدوء ينبعث من معرفة عميقة، وحس ساخر راق كامن، فيما يشبه، من خلال تسعة عشر فصلاً، الإطلالة البانورامية علي الحال الفكرية للعالم اليوم وتيارات القوي السياسية التي تعصف به وترسم ملامح مستقبله.
البريكزيت. التغير المناخي. ترامب. اللامساواه. الموضوعات التي يرتكز عليها الأستاذ الفرنسي في اللوحة المدخلية التي يرسمها ويقدمها فيما يشبه تمهيداً طويلاً للفصل العشرين الختامي.
في الفصل العشرين يقدم البروفيسور أطروحته الشعرية، التأكيدية التجديدية، المُلخصة بشمولية وإيجاز، لقرون من المشاعر الأوروبية، والتي وقعت منا ومن المسار البحثي الذي تسير فيه المدونة موقعاً عميق الأثر، وأصابت موضعاً بعيداً في صميم الموضوعات التي ننشغل بها ونقيم عليها عقلنا.
حين يعلن بروفيسور لاتور “أنا أريد الهبوط في أوروبا” يبدو كأنه يقدم الحل لما أسلفه من قراءة وعرض وتحليل بالفصول السابقة. ويشرع من فوره كشاعر عجوز في زجل رسالة حبه الخاصة إلي أوروبا، تحت مسماه “دفاع شخصي عن القارة العجوز”.
بالنسبة إلينا، توازت كل كلمة غرام وجهها لاتور إلي أوروبا مع مشاعرنا المصرية، فبدت مصر من خلال ظلال كلماته، أوروبية كما لم تكن من قبل مع إسماعيل ومع طه حسين، وبدا الإرتباط بين مصر وأوروبا، من الناحية الشعرية علي الأقل، من الزاوية التي قدم منها بروفيسور لاتور نظرته إلي أوروبا، كصداقة عجائز، راقية وحميمية، يعود ماضيها إلي أصول متينة، حتي وإن سار كل منهما في اتجاه مغاير، فإنهما ينظران تجاه بعضهما، ويلتقيان رضيا أو لم يرضيا بوحدة دم حضارية.
“لا يخلو عيب واحد من عيوب أوروبا من ميزة.”
“أن تكون قارة عجوز.”
“في نهاية الأمر، إنها هي من زعمت ابتكار الكوكب.”
“إذا كانت أوروبا الموحدة قد قامت من الأسفل…()… فإن في وسع الثانية أيضاً أن تنهض من الأسفل.”
“ليس ثمة معني لأوروبا إن لم تقم بإعادة النظر في الفجوات التي سببها التحديث.”
“فبعد أن غزت كل الشعوب، تعود إليها كل الشعوب.”
“يعني هذا أن علي أوروبا نظراً لماضيها، ان تقوم بالخطوة الأولي لانها تتحمل المسئولية الاولي.”
“في كل أنحائها، في كل ثنية أراض، في كل زاوية شارع، أثر للمعارك..”
“بها مدن، ويالها من مدن!”
“وما يصدق بالكاد، انها قد نجحت في الحفاظ علي ريف، ومناظر طبيعية..”
“لقد ذاقت منذ قرون خبز الديموقراطية.”
“إنها صغيرة بما يكفي لأن تدرك أنها ليست للعالم، وكبيرة بما يكفي لعدم اكتفائها بحدود قطعة أرض صغيرة. إنها غنية. غنية بشكل لا يُصدق.”
“أوروبا عالمية بطريقتها الخاصة، مثل كل المنظومات الأرضية.”
“يبدو أن ثقافات أخري تعتبرها منحطة وتزعم معارضة طرق عيشها: فلتظهر فضيلتها.”
“ها هي أوروبا تستأنف ماضيها.”
“لقد أرادت أن تكون للعالم كله.”
“لقد قامت بأول محاولة للانتحار.. ثم محاولة أخري..”
“ثم اعتقدت انها فرت من التاريخ بعد ان وضعت نفسها تحت المظلة الأمريكية.”
“إنها وحيدة وبلا حماية.”
“هذه هي بالضبط اللحظة المناسبة لدخول التاريخ.”
“ومثلما كان الحال في بداية تاريخها فأنها تستأنف مسألة العالمية.”
“لا شئ يضاهي قارة عجوز تستأنف –بكلفة جديدة- ما هو مشترك.”
كتاب “أين نرسو؟ محاولة للعثور علي البوصلة السياسية” صادر عن دار الكتب خان للنشر والتوزيع بالقاهرة، 2020، و ترجمه عن الفرنسية كلاً من نزار آغري وداليا السجيني. ونحن ندعوكم بكل إلحاح إلي اقتناءه وقراءته.
صورة المقالة عن النيويورك تايمز.