إني أتهم

يصف أناتول فرانس إميل زولا بأنه أكبر قوة دافعة في ضمير الإنسانية، وستري في هذه الرسالة التي كانت نقطة الانقلاب في قضية دريفوس كيف استحق إميل زولا هذا الوصف:

في عام 1894 اتُهم الكابتن ألفرد دريفوس، وهو ضابط نابه من ضباط المدفعية الفرنسية، كريم الخلق وابن صانع يهودي، اتُهم بأنه باع إلي الأعداء وثائق هامة ذات قيمة حربية خطيرة، وأيدت التهمة بخطاب قبل إنه بعث به إلي موظف ألماني وصودر قبل أن يصل إلي المرسل إليه. وحوكم الضابط الشاب وأيُدت التهمة بأدلة مزورة، وحكم بإدانته، فُجرد من رتبته وشرفه العسكري، وحكم عليه بالسجن في جزيرة الشيطان بالقرب من غينيا الفرنسية French Guiana. وجُرد دريفوس من رتبته في احتفال عام، ونُزعت شاراته العسكرية وأزراره، وكُسر سيفه. وبينما كان الجمهور الصاخب المهتاج يطالب “بقتل الخائن” وقف دريفوس رابط الجأش وخاطب الضباط والجمهور قائلاً: “إني برئ، وستعرفون الحقائق يوماً ما، لتحيا فرنسا”.

وقاسي دريفوس الأمرين في جزيرة الشيطان الموحشة المنعزلة، وكلف سنة من الحراس بمراقبته ليلاً ونهاراً، وعذب عذاباً أليما في الجسم والعقل. ولما ثبت بعد ثلاث سنين من هذا الحكم أن الخطاب المزعوم مزور، وأن كاتبه رجل من أسافل الناس يدعي إسترهازي، وقفت القيادة العليا الفرنسية في طريق العدالة، وأبت ان تنقض الحكم لئلا تفقد سمعتها في نظر الأمة. وفي ذلك الوقت أخذ الأحرار في جميع أنحاء أوروبا بوجه عام وفرنسا بوجه خاص يعنون بهذه القضية، وانقسمت الأمة بين مؤيد لإعادة النظر وممانع فيها، وأثارت القضية من أول الأمر اهتمام إميل زولا، وكان وقتئذ في عنفوان مجده الأدبي، ذائع الصيت في جميع أنحاء العالم بفضل ما كتبه من الروايات الخالدة أمثال نانا Nana  وجرمينال Germinal، يهابه الناس ويخشون قلمه، ويجلونه أعظم إجلال لما اشتهر به من عداء شديد للظلم والرياء.

وفي شهر يناير من عام 1898 تطوع للدفاع بقلمه عن قضية الحق والعدالة، وثارت ثائرته وغضب غضبة مضرية حين حُكم ببراءة إسترهازي بعد محاكمة صورية.

وقد الأحرار الفرنسيون لزولا ما جمعوه من الحقائق المتصلة بالقضية، فأعتمد عليها ووجه خطابه المفتوح التالي إلي فليكس فوريه Felix Faure رئيس الجمهورية الفرنسية في جريدة لورور “الفجر” إحدي جرائد الأحرار في ذلك الوقت. وتعد هذه الرسالة من أشد الرسائل التي كتبت في التاريخ كله. وقد قضي يوماً كاملاً في كتابتها، وكان وهو يكتبها “يلهث من الغضب ومن خوفه ألا يكون أول من كتب مثلها”. ولما نُشرت كان لها أعظم الأثر في البلاد. وكتب جورج كلمنصو وكان وقتئذ شاباً صحفياً متطرفاً عنوانها الشهير:

———-

إني أتهم

يناير سنة 1898

من ترجمة الأستاذ محمد بدران

يا جناب الرئيس:

أرجو أن تسمح لي أن أصرح لك نظير ما أسديت لي في سابق الأيام من جميل بشدة خوفي علي ما نلت من مجد وسؤدد، وأن أخبرك أن سجل أعمالك الذي ظل حتي الآن أبيض ناصعاً، يهدده في هذه الأيام عار ينكس الأبصار، ولا يمحي أبد الدهر.

لقد نجوت من أشنع التهم فلم تُصب منها بسوء، ولقد أسرت جميع القلوب، وهأنت ذا تنعم الآن بمجد الاحتفالات الوطنية.. وتستعد لرياسة المعرض العام الذي ستختتم به جهود مائه عام من العمل، ومن الجهاد في سبيل الحق والحرية. ولكن أية وصمة سيوصم بها اسمك –ولقد كدت أقول عهدك- من جراء هذه القضية اللعينة قضية دريفوس. لقد جرأت محكمة عسكرية من زمن قريب علي أن تخضع لأمر صدر إليها فبرأت رجلاً يدعي إسترهازي، وكان عملها هذا في واقع الأمر لطمة للعدالة ما أشدها. وقد قضي الأمر وتسربلت فرنسا بهذا العار، وسيقول التاريخ إن هذه الجريمة الأجتماعية قد ارتكبت في أيام إدارتك.

لقد جرؤوا علي ارتكاب هذا الإثم، ومن أجل هذا سأجرؤ أنا أيضاً علي قول الحق لأني عاهدت نفسي علي قوله، إذا كات القضاء قد أبي أن يقوله، وكان من حقه أن يفعل، وسأقوله كاملاً لا أجامل فيه ولا أخفف من وقعه. ذلك أن الواجب يقتضيني أن أتكلم لكيلا أكون شريكاً في الجريمة، ولكيلا ينغص عليّ أحلامي شبح ذلك المخلوق البرئ، وهو يكفر بأشد أنواع العذاب عن جريمة لم يرتكبها قط.

وساجهر لك أنت يا جناب الرئيس بهذا الحق، وأجهز به بكل ما لدي من قوة تبعتها في الرجل الشريف ثورته علي الظلم. ولست أشك في أنك تجهل هذه الجريمة، فهي إذن لم تمس شرفك، ومنذا الذي أشكو إليه إذن أولئك السفلة الأراذل المجرمين بحق، إذا لم أشكهم إليك، وأنت أكبر المهيمنين علي شئون البلاد؟

إني أتهم الكولونيل دو باتي ده شام بانه هو الأداة الشيطانية التي استخدمت في ارتكاب الغلطة القضائية، وسأحمل نفسي علي الاعتقاد بأن ذلك علي غير علم منه، ولكنه كان خلال الثلاث سنين الماضية يدافع عن عمله المشئوم بأسخف الوسائل وأبعثها علي الاشمئزاز.

وأتهم القائد مرسييه بأنه اشترك في ارتكاب أشنع جريمة اقترفت في التاريخ كله، وأكبر الظن انه فعل ذلك لخبال في عقله.

وأتهم القائد بيلو بأنه كان يملك الأدلة القاطعة علي براءة دريفوس، ولكنه أخفي هذه الأدلة وارتكب جريمة الخيانة العظمي ضد العدالة والإنسانية، مدفوعاً إلي ذلك بأسباب سياسية، وبالرغبة في ستر جريمة هيئة أركان الحرب العامة.

وأتهم القائدين بودفر وجنز باشتراكهما في هذه الجريمة نفسها، فأما أولهما فكان مدفوعاً في ارتكابها بأحقاد دينية، أما ثانيهما فقد فعل ما فعل انتصاراً لزملائه.

وأتهم القائد دو بلييه والميجر رفري بالتزوير في التحقيق، أقصد أن تحقيقهما كان أبعد ما يكون عن النزاهة، وإن التقرير الذي يتضمن هذا التحقيق لهو الوقاحة المجسمة في أبشع مظاهرها.

وأتهم خبراء الخطوط الثلاثة: بلوم، وفارينار، وجوار بأنهم وضعوا تقارير كاذبة مزورة، إلا أذا أثبت الفحص الطبي أنهم تعوزهم قوة الإبصار والقدرة علي التمييز.

وأتهم وزارة الحربية بأنها دبرت حملة دنيئة في الصحف وبخاصة في جريدة لكلير “الضياء” والإكو “الصدي” لتضليل الرأي العام ولستر جرائهما.

وأخيراً أتهم المحكمة العسكرية الأولي بأنها اعتدت علي جميع الحقوق البشرية بحكمها علي سجين بناء علي أدلة بقيت سراً مخفياً عنه فلم يطلع عليها، وأتهم المحكمة العسكرية الثانية بأنها سترت هذه المخالفة القانونية بأمر أصدرته، وبأنها ارتكتب جريمة قضائية إذ برأت رجلاً مذنباً رغم كامل علمها بجريمته.

ولست أجهل أني حين أتهم هؤلاء كلهم بما اتهمتهم به أعرض نفسي للعقاب بمقتضي المادتين 30 و 31 من قوانين جرائم القذف الصادرة في 29 يوليو سنة 1881، وهما المادتان اللتان تنصان علي عقاب من يطعن في الناس، ولكني أعرض نفسي باختياري لهذا العقاب.

أما الذين أتهمهم فإني لا أعرفهم، ولم أرهم قط، ولست أشعر نحوهم بشئ من الكراهية أو الحقد، وليسوا جميعاً بالنسبة لي إلا مجرد كائنات ورموز للإجرام الأجتماعي، وليس العمل الذي أضطلع به هنا إلا خطوة ثورة يقصد بها التعجيل بانفجار بركان الحق والعدالة.

وكل الذي أهدف إليه هو أن أزيح الستار عن هذه المأساة بأسم الإنسانية التي أؤذيت وطال صبرها، والتي تري أن السعادة من حقها. وليس احتجاجي الملتهب إلا صرخة صادرة من أعماق قلبي، فليكن لديهم من الشجاعة ما يكفي لإرسالي إلي محكمة الاستئناف لتحقق معي في ضوء النهار الساطع.

وإني لمنتظر.

وأرجو يا جناب الرئيس أن تقبل عظيم إجلالي.

إميل زولا.

المقدمة والأقتباس من كتاب أشهر الرسائل العالمية، سلسلة آفاق عالمية 187، إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2019.

تأليف الأستاذ محمد بدران.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *