أحمد لطفي السيد : اشتغالي بالسياسة

فقرات من كتاب أحمد لطفي السيد: قصة حياتي.

في إستانبول

وفي صيف سنة 1893 سافرتُ إلي إستانبول، وكنت ما أزال طالباً بالحقوق، فالتقيت بزميلي وصديقي المغفور له إسماعيل صدقي (باشا)، وكان الخديو عباس حلمي الثاني يزور وقتئذ العاصمة العثمانية، فكنا فيها نحن الاثنين كأنما نمثل الطلبة المصريين في الاحتفال بالخديو.

وذات يوم كنت سائراً مع “إسماعيل صدقي” نتنزه علي “كوبري غلطة” وكان به شئ من القدم والتهدم، فأخذ “إسماعيل” يتساءل: أين ميزانية الدولة؟ وينتقد بطء التعمير والإصلاح، ويظهر أنه كان يسير وراءنا – دون أن نشعر- جاسوس عثماني، كما كانت الحال في ذلك الزمان، فابلغ رؤساءه هذا الانتقاد.

وبعد بضعة أيام ركبنا معاً حصانين، وذهبنا للتفرج في “بيوكدره” ولما عدنا إلي المرفأ لنركب “الحميدية” إلي إستانبول قال لي إسماعيل صدقي: “أرجو أن تنتظرني حتي أمر بأمين باشا” فأنتظرته علي ضفه البسفور حتي عاد من زيارته، فوجدته ممتقع اللون واجماً حزيناً، فسألته عن أمره، فأجاب: “سأقول لك متي دخلت المركب” ثم قال لي ونحن في “الحميدية” : “إن امين باشا كان في “المابين” (المعية السنية) فسمع من رجاله أن شاباً مصرياً اسمه إسماعيل صدقي تكلم ضد الدولة العلية وسياستها”

وكان جزاء من يثبت عليه ذلك أن ينفي في بغداد حتي يموت، ولكن أمين باشا أجابهم: “إن هذا الشاب الذي تعنونه ليس غير تلميذ صغير في المدرسة لا يُعبأ بكلامه.”

فقالوا له: “إذن ما دام يهمك، فليسافر في أول سفينة تقوم من إستانبول، فسافر إسماعيل صدقي في صباح اليوم التالي، ووصل إلي مصر في 12 يوماً.

أما أنا فبقيت في إستانبول مدة إجازة الصيف أتتلمذ علي جمال الدين الأفغاني.

تتلمذت على جمال الدين

في اليوم التالي لسفر إسماعيل صدقي (باشا) — وكان ذلك في صيف سنة ١٨٩٣ — مررت بأحد مقاهي الأستانة، فلقيت فيها بعض المصريين، وفيهم سعد زغلول بك (باشا) وكان وقتئذ قاضيًا بالاستئناف، والشيخ علي يوسف، وحفني بك ناصف، وقد تأهبوا لزيارة السيد جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله، وكنت أعرف طرفًا من حياته، ولكني لم أكن قد اجتمعت به من قبل، وكان قد ذاع صيته في الشرق الإسلامي كمصلح ديني، وفيلسوف جليل، وسياسي خطير، ونزل مصر سنة ١٨٧١ ،وأقام بها حتى أواخر سنة ١٨٧٩ ،وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء وكبار الكتاب في القطر المصري، وقد رحل إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، ثم أقام في أواخر حياته بالأستانة، فنزل ضيفًا على السلطان عبد الحميد في منزل يدعى (المسافرخانة) موفور العيش ووسائل الاطمئنان، وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام، وكان يخرج عصر كل يوم للرياضة والنزهة في أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة. ولما ذهبت إليه مع إخواني، ألفيته رجلا مهيب الطلعة قوي الشخصية لا نظير له بين أهل عصره في علمه وذكائه وألمعيته، وكان أبيض اللون، ربعة، ممتلئ البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، جذاب المنظر، يلبس عمامةً َ وسراويل على زي علماء الأستانة. وجبةً وأظهر ما رأيته فيه سعة الاطلاع، وقوة الحجة والإقناع، فكان يستوي في مجلسه الطالب مثلي وأساتذته الحاضرون.

 وفي اليوم التالي ذكرت لسعد زغلول رغبتي في التلمذة على السيد جمال الدين، وسألته عن السبيل التي أسلكها لأكون تلميذًا له، فأجاب سعد: اذهب اليه، واطلب منه ذلك. فقصدت إليه، فما كدت أقبل عليه حتى قام لتحيتي كالمعتاد، فقلت له: أنا لست ً زائرا، ولكني تلميذ … فُسرَّ ً رحمه الله بذلك، وأخذ عليّ عهدا بأن ألازمه طول إقامتي بالأستانة، وقد فَعلت.

اشرب يا ولدي، اشرب

وأهم ما أظن أني انتفعت به من السيد جمال الدين في تلك المدة أنه وسع في نفسي آفاق التفكير، وهداني إلى أن المرء لا يستطيع أن يربي نفسه إلا إذا حاسبها آخر كل يوم على ما قدمت من عمل، وما لفظت من قول، وما خطر لها من خاطر. وكان جمال الدين ميالاً للسياسة يتحدث عنها كثيراً، وكأنه يريد أن يقيم في الشرق دولة تضارع إنجلترا في الغرب. وكان رحمه الله شديد النقمة على الإنجليز؛ لسياستهم في البلاد الإسلامية، وهدمهم لدول الإسلام، ولما وجده من اعتداءاتهم عليه، وإخراجهم له من الهند، ودسهم له في مصر حتي أخُرَج منها في عهد الخديو توفيق، وهو الذي كان يتمتع في عهد الخديو ُ إسماعيل بكرم الضيافة المصرية، وكان يُجَرى له راتب شهري، وقد روى لي قصة سعيه الحثيث في ذلك العهد للإفراج عن لطيف سليم باشا ومن معه من الحبس حينما قاموا بالثورة العسكرية في مدة الوزارة المختلطة. وكان رحمه الله يقدر تلميذه «الشيخ محمد عبده»، وإذا ذكر اسمه في مجلسه أعرب عن احترامه له، وتقديره لذكائه وعلمه، وكان يعيب على المصريين تخاذلهم وتفرقتهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من الحوادث الجسام، ويردد قوله: «اتفق المصريون على ألا يتفقوا.» وكان طيب الحديث، لطيف المعشر، حلو الفكاهة، وأذكر من حوادث مزاحه ً الطريف أنه قدم لي يوما سيجارة فدخنتها، فأعطاني الثانية، فاعتذرت، فقال لي: ألا ترى أن الإنسان منذ نشأته إلى الآن يأكل ويشرب ويلبس على خلاف في الصورة في العصور المتغيرة، ولكن الجوهر واحد، فما الذي جد عليه حتى علا نفسه في القرنين الاخيرين فاستكشف البخار والكهرباء، إلخ، لا أظن أنه جد عليه شيء إلا شرب الدخان، اشرب يا ولدي، اشرب!

جمعية سرية لتحرير مصر

 أتممت الدراسة سنة ١٨٩٤ وحصلت على شهادة ليسانس الحقوق، فعيِّنْتُ في صيف ذلك العام أنا وجميع زملائي كتبة في النيابة بمرتب خمسة جنيهات في الشهر، وكان تعيينى في هذه الوظيفة لأول مرة بالقاهرة، ثم نقلت إلى الإسكندرية، فمكثت بها أشهراً، عينت بعدها سكرتيراً للأفوكاتو العمومي حسن باشا عاصم، ثم انتدبت معاوناً للنيابة ببني سويف، وسرني ذلك؛ لأني وجدت بها صديقي عبد العزيز فهمي (باشا)  وكيل النيابة وقتئذ، وفي سنة ١٨٩٦ عينت وكيلا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات، وكان صديقي عبد العزيز ما زال بها

أيضاً، فأقمنا معا في هذه المدينة، وكنا نفكر في حالة مصر، وما تعانيه من الاحتلال البريطاني، وفي ذلك العام أنشأنا جمعية سرية غرضها «تحرير مصر». وكانت هذه الجمعية مؤلفة من: عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت رئيس النيابة (أحمد طلعت باشا فيما بعد)، وحامد رضوان وكيل النيابة، ومحمد بدر الدين وكيل النيابة، والدكتور عبد الحليم حلمي، وأنا، ثم ضممنا إليها علي بهجت بك، ومحمد عبد اللطيف الذي كان صيدليٍّا بطنطا.

 حزب وطني برياسة الخديو

 وذات يوم كنت بالقاهرة بعد تأليف تلك الجمعية، فالتقيت بمصطفى كامل، فقال لي: «إن الخديو عباس يعلم كل شيء عن جمعيتكم السرية وأغراضها، وأظن أنه لا تنافي بينها وبين أن تشترك معنا في تأليف حزب وطني تحت رياسة الخديو.» فأجبته: «لا مانع عندي من ذلك.» وأبلغ مصطفى الخديو هذا القبول، واستأذن لي في مقابلة سموه، وذهبت إليه، فتحدث معي سموه عن أغراض الحزب الذي يريد تأليفه، وطلب مني أن أسافر إلى سويسرا؛ لكي أكتسب الجنسية السويسرية، ثم أعود إلى مصر لأحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، والسبب في اختيار سويسرا دون أية دولة، أن التجنس بجنسيتها قريب المنال لا يكلف الراغب فيه إلا إقامة سنة واحدة بها

 وكان الخديو عباس يظن وقتئذ أن فرنسا تستطيع أن تؤلب الدول على إنجلترا؛ لتجلو عن مصر، والذي أطمعه في ذلك زيارة «املسيو ديلونكل» النائب الفرنسي لسموه َوَوْعُدُه له بذلك. وبعدما خرجت من مقابلة الخديو عباس، اجتمعت أنا ومصطفى كامل وبعض زملائنا في منزل محمد فريد، وألفنا الحزب الوطني كجمعية سرية رئيسها الخديو، وأعضاؤها: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعيد الشيمي ياور الخديو، ومحمد عثمان «والد أمين عثمان باشا»، ولبيب محرم (شقيق عثمان محرم باشا)، وأنا. ومن طرائف ما يذكر عن هذا الحزب أن الخديو كان اسمه بيننا: «الشيخ» ومصطفى كامل «أبو الفداء»، وأنا «أبو مسلم

إقامتي في جنيف

سافرت بعد ذلك إلى جنيف لأكتسب الجنسية السويسرية حسب الاتفاق، وكان معي كتابان من علي بهجت بك إلى المستشرق «ماكس فان برشم» والأستاذ «نافيل» الأثري المعروف، فلما قابلت الأستاذ «ماكس» سهل لي استخراج جواز الإقامة، وأدخلني ندوة الفنانين، وكان مكلفاً من الحكومة الفرنسية بجمع الآثار الإسلامية في مصر والشام، فأخذت أقضي معه وقتًا في مساعدته على استجلاء معاني النقوش العربية التي جمعها من الآثارو دراستها، ووضع مؤلف بها، وأما املسيو نافيل الذي كان مشهورا بعلاقاته ً برجال السياسة في سويسرا وفي الخارج؛ فقد جاءني في الفندق بعد خمسة عشر يوما، وجرى بيني وبينه حديث طويل انتهى بقوله: لا تظن أن أوربا تساعدكم على إنجلترا،  وأرى أن لا يحرر مصر إلا المصريون.

مع الشيخ عبده بجنيف

مكثت في جنيف سنة ١٨٩٧ أقضي الأشهر الأولى في الدراسة وحضور بعض المحاضرات بالجامعة، وأتعلم «الشيش» في أوقات الفراغ حتى أقبل الصيف، فجاءني فيها الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، فلم أخبرهم بمهمتي السياسية، وكان قاسم ٍ وقتئذ ً يؤلف كتابه «تحرير المرأة»، فقرأ علينا فصولا منه مدة إقامته بيننا، ثم سافر مع سعد زغلول من سويسرا، وبقي معي الشيخ عبده، وكانت جامعة جنيف قد أعدت فصلا صيفيٍّا لدراسة الآداب والفلسفة للحائزين على درجة الليسانس فدخلت فيه، ولما ذكرت ذلك للشيخ محمد عبده أحب أن يحضر دروسه، فقدمته إلى مدير الجامعة باعتباره قاضيًا في الاستئناف وأحد مديري الأزهر، فقبله بهذا الوصف فمكثنا نتردد على هذه الدراسة.

والد محمد فريد يبكي

وأذكر أنني والشيخ محمد عبده في جنيف ذهبنا لزيارة محمد ثابت باشا الذي كان ً مهردارا للخديو إسماعيل — أي حامل أختام الخديو — وهو يساوي رئيس الديوان، وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا والد محمد فريد، وكان ناظرا للدائرة السنية، ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام أخذ فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده، ويبكي، وكان وقتئذ ً مريضا، ويقول للشيخ: هل يصح يا سيدي الأستاذ أن يهزئني محمد فريد في آخر الزمن، ويفتح دكان أفوكاتو (مكتب محام)؟!  وكان محمد فريد قبل ذلك وكيلا للنيابة، وحدثت واقعة شركة التلغرافات التي اتهم فيها الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وقدم إلى المحاكمة من أجل نشر هذه التلغرافات في جريدته، وحضر محمد فريد الجلسة، فبدرت منه ألفاظ ضد الحكومة عدتها جارحة لها، فأمرت بنقله إلى الصعيد، فاستقال من وظيفته بعد استشارة رياض باشا، وفتح مكتبًا للمحاماة بالاشتراك مع محمود أبو النصر، وأنشأ مجلة «الموسوعات» وكنت أنا أحرر فيها من وقت لآخر، وأذكر أنني كتبت بها عدة مقالات تحت عنوان «مشخصات الأمة» ناديت فيها بإصلاح الحروف العربية؛ كي يقرأ القارئون اللغة قراءة صحيحة من غري أن يتعلموا النحو والصرف … فلما سمع الشيخ محمد عبده شكوى أحمد فريد باشا لاشتغال ابنه بالمحاماة أخذ يهدئ من نفسه، ويعرب له أنه يخالفه في رأيه، ويرى أن الاشتغال بالمحاماة ليس فيه ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس، وما كان مألوفًا في فهمهم لهذه المهنة في ذلك الزمان

الخديو يغضب مني

كان الخديو عباس لا يميل إلى الشيخ محمد عبده، ويظهر أن بعض الناس أبلغ الخديو أنه كان يعايشني في جنيف، فلما عاد إلى مصر جاءني مصطفى كامل، وأفضى إلي بأن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ عبده، ثم قال مصطفى: «… ومع ذلك لم ننجح في الحصول على موافقة الباب العالي على تجنسك بالجنسية السويسرية!» رجعت من سويسرا، ولما وصلت إلى الإسكندرية أرسلت تقريرا إضافيًا إلى الخديو عباس دونت فيه أبحاثي السياسية بجنيف، وقلت: «إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس سمو الخديو حركة شاملة ً للتعليم العام.» ثم سافرت من الإسكندرية إلى الفيوم عائدا لوظيفتي بالفيوم، ولم أتصل بالخديو، وكان صديقي عبد العزيز فهمي قد انتقل منها لوزارة الأوقاف وأنا بأوربا، فبقيت في الفيوم مدةً ً انتقلت بعدها وكيلا للنيابة بميت غمر سنة ١٩٠٠ ثم نُقلت منها إلى الفيوم ثانيًا، ثم إلى المنيا. وكانت سنة ١٩٠٥ ،فاستقلت من النيابة؛ لخلاف في الرأي القانوني بيني وبني النائب العمومي كوربت بك، ولم تكن الاستقالة الأولى من النيابة، بل استقلت قبل ذلك ً مرة أخرى؛ لخلاف قانوني أيضا، ولكني لم أنجح في الإصرار عليها. فلما وقع هذا الخلاف بيني وبين النائب العمومي، أصررت على الاستقالة على الرغم من أنه نزل عن رأيه الذي كونه من خطأ وقع فيه وكلاؤه في تكييف الوقائع؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ إذ كنا مكلفين بألا نتصرف في الجنايات الكبرى ً إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي، وقد عزمت على أن أعيش في بلدي، وكنت متأثرا وقتئذ بما كنت قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي — وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة — ألح عليّ في الاشتغال معه، فأجبت رغبته واشتغلت بها فترة قصيرة ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير في صحيفة «الجريدة».

عن كتاب أحمد لطفي السيد-قصة حياتي- إصدار مؤسسة هنداوي.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *