البيئة العمرانية في رواية السراب 1948 لنجيب محفوظ

هذة الورقة جزء من سلسلة من الأبحاث حول العمران المصري قبل 1952 وفيها نتأمل صورة هذا العمران المعكوسة في رواية السراب للأستاذ نجيب محفوظ الصادرة عام 1948.

من الناحية الأدبية فأن رواية السراب هي رواية الألتزام والأستغراق الكامل في البناء النفسي لشخصية البطل (كامل رؤبة لاظ) و رسم تفاصيل تدرجها وتصاعدها ببطء وعبر سنوات الطفولة والدراسة والزواج. ولا يكاد يصدق أحد أن بالإمكان تقديم مثل هذا العمل التفصيلي الضخم الآن أو إعادة قراءته، لاختلاف مزاج الحداثة، إلا أن  أسلوبية التقديم هي التي تمنح مثل هذه القصة وغيرها من كتابات الأستاذ محفوظ حياتها الأدبية، فالقصة تضج بأنواع مختلفة من السحر، السحر المصري، سحر حياة الطبقة المتوسطة وملذاتها للرجال وللنساء، سحر الحديث المصري إشاراته ومتوارياته، سحر الدراما، زواج وطلاق وخيانة وعذاب وانتحار، وسحر تنوع البيئات الأجتماعية، مدارس وجامعة وموظفين الديوان ورواد المقاهي والحانات ومجموعات المتقاعدين وسرايات الأعيان، وكل هذا المزيج مع إضافة سياسية خفيفة هي ما تمنح التفاصيل التافهة لحياة شاب صغير متخاذل مثل (كامل رؤبة) تلك اللذة في التلقي وتلك اللهفة إلي المتابعة.

وتستدعي الرواية بحجمها وبذلك الجهد الهائل المبذول في بناء تفاصيلها الصغيرة السؤال الذي أشار إليه الأستاذ محفوظ في محاضرة نوبل، عن مصدر سعة البال تلك التي أتت لكاتب من العالم الثالث لكي يجلس ويكتب هذا الأدب الطويل والعميق، ويبقي ذلك هو السر الخالد للكاتب المصري.

واما بداية ملاحظات البيئة العمرانية في رواية السراب، فبدأت بالتفتح في الحجرات وفي منازل الأسرتين، أسرة رؤبة لاظ، وأسرة الأميرالاي عبد الله بك حسن، حيث الحجرات فسيحة، والخدم كثيرون. ينام هؤلاء الخدم في غرف منفصلة مما يشير إلي التصميم المعماري الرائج في فترتنا البحثية، وجودة أعمال المقاولات، أو علي الأقل تخصصها.

تمتلك أسرة الأميرالاي عبد الله بك حسن طاهياً خاصاً يقدم لهم الطعام وآخر للتنظيف، وحوذياً يقود العربة ذات الجوادين التي تنقل أفراد الأسرة الصغيرة في جولاتهم الخاصة، فلم تعرف الأسرة شقاءاً مبكراً إلا عندما خسر الأميرالاي نقوداً في لعبة الورق فاضطر لبيع العربة. وهكذا بدأ بطل القصة كامل يعتمد علي استئجار عربات الجياد والتاكسي وركوب الترام في رحلاته بالقاهرة.

في منزل الأميرالاي فناءاً داخلياً يلهو فيه الأولاد، فناءاً يسمح للأم أن تطل علي كامل من عل، وهذه إشارة علي المساحة وتوفرها.

في الأربعينات كان تعداد سكان مصر حوالي 18 مليون نسمة، بالتالي يمكن تخيل نصيب الفرد من المساحة المفتوحة ومقارنته بالنسبة الحالية البائسة.

علي الجانب الآخر من الأسرة يعيش الأب رؤبة لاظ علي أمجاد الماضي وحيداً مخموراً في قصر منيف، تظلل سماء حديقته أشجار الموالح والنخيل، ويدخل فيه الضيوف إلي السلاملك التي تحتاج إلي خبير تراث أو إلي زيارة سياحية تاريخية لفهم ورؤية المساحة المقصودة بتلك الكلمة الساحرة المأخوذة عن كلمة “سلام” في الأصل.

هذه قاهرة أواخر الأربعينيات. منذ عشرين عاماً فقط، كان يمكن القول أن هذا كان منذ ستين عام، نصف قرن، لا شئ في عمر البلد، لكن التقدم في العشرين سنة السابقين والتدمير الذي بدأ في العشرية الأخيرة جعلا من تلك المفردات الصغيرة “فناء” “غرفة خدم” “حديقة” “سلاملك” سراباً.

لم يعد مُرحباً بوجود قصر في منتصف المدينة حيث زادت الكثاقة السكانية واشتد الزحام. فوجب أن تنتقل القصور الجديدة إلي الأطراف والسواحل وأن تهدم القصور التي في الداخل لترتفع بدلاً منها الأبراج السكنية التي تواكب أعداد السكان، إلا أن هذه العملية لم تكن مخططة وكانت مقاولاتيه بالكامل فزالت تدريجياً كل عمارة القاهرة  الجميلة وحلت محلها عمارة أخري غاية في المادية والبرجماتية والقبح.

واستكمالاً لحديث البيوت والحجرات، يستوقفنا منزل السيد جبر بك بتقسيم حجراته وصالاته، فالداخل إلي البيت يمر بصالة استقبال صغيرة ثم ينتقل بعدها إلي صالة الأستقبال الرئيسية الواسعة، وهي الصالة نفسها التي يستخدمها وكيل النيابة فيما بعد للتحقيق في مقتل زوجة كامل، بينما تختفي بقية الحجرات عن الأعين فلا تظهر غرفة رباب إلا حين يقصدها كامل، وبالطبع لا تظهر غرفة النوم الرئيسية أبداً. واما الملاحظة الأهم التي تخص هذا المنزل فهي قدرته علي استضافة حفل زفاف كامل ورباب، سواء داخل الشقة أو علي السطح، وكانت عادة إقامة الزفاف علي أسطح المنازل عادة مصرية أصيلة طوال القرن العشرين، قبل أن تصبح الأسطح في العمران المصري الحديث مخزناً لأجهزة التكييف والاتصالات والخرائب الأخري. وفقدت العديد من الأسر حقها في الصعود إلي أسطح منازلها واستغلالها.

والبيت الآخر الذي يستحق وقفة صغيرة هو بيت الزوجية، الذي عاش فيه كامل ورباب مغامرتهما المأساوية، وفي هذا البيت تطل نافذة غرفة النوم علي كنيسة! وهذه تفصيلة مدهشة في معقوليتها وبساطتها، فيقف الزوجين متجاورين في النافذة مستمتعين بقمم الأشجار التي تنبت من حديقة الكنيسة. وذلك الزقاق الجانبي الصغير الذي يفصل بينها وبين البيت يخلق تياراً طبيعياً من الهواء، جعل أجزاء الرسالة السرية الممزقة التي ألقتها رباب من النافذة هرباً من كامل تتطاير وتتلاشي في الفضاء.

وخروجاً إلي المدينة الرحبة، يعد الترام هو القصبة العمرانية التي تدور حولها أحداث القصة، وهو وسيلة المواصلات الرئيسية التي تركبها كل الفئات، وظل بطل القصة مواظباً علي ركوبه قرابة العشرين عاماً دون إشارة للتدهور.

وترام القاهرة له تاريخ طويل من التحولات والتوسعات قبل الزوال النهائي. ومما يؤسف له عند النظر في صور ترام القاهرة القديم هو ملاحظة الأشجار التي تحف جانبي المسار المخصص له في كثير المواضع.

وقد خسرت القاهرة فرصة تطوير ترامها أو تحويله إلي ترام سياحي مثل أغلب العواصم الأوروبية إلي الأبد. وكان من الممكن لترام القاهرة السياحي أن يظل حافظاً لتراثها الأدبي، مثل عواماتها النيلية التي تُزال وقت كتابة هذه السطور.

من الترام يمكنك مشاهدة المباني والأشجار، ويمكنك مشاهدة السماء. فهو وسيلة مواصلات جماعية إنسانية، بل هو أكثر وسائل المواصلات الجماعية إنسانية، فلا هو قبوي، أسفل الأرض، مثل مترو الأنفاق، ولا هو فضائي، طائر في السماء، مثل المونوريل، بل هو، مثل الإنسان، فوق سطح الأرض.

وهو عنصر أساسي ورئيسي في شبكة مواصلات المدن الحديثة: لقد طارد كامل بطل القصة الترام بالتاكسي عندما كان يراقب زوجته الشابة وهي جالسة داخل الترام، إذن هذه الشفافية ونفاذية خطوط البصر داخل المدينة هي أشياء امتلكتها القاهرة وخسرتها خلال تطورها دون شك.

واما الأماكن في المدينة، فإن جزيرة منيل الروضة هي المسرح الرئيسي الذي يتنفس فيه أبطال هذه القصة. في جزيرة الروضة ذهب كامل إلي المدرسة الأولي، وانظر إلي تلك الكلمة التي صرخ بها مدير المدرسة في وجهه “اذهب إلي قمطرك” وهي كلمة معمارية بلا شك من التراث الميت لكنها تستحق الإشارة والأستعادة ولو في فقرة في رسالة.

ركب كامل بعد ذلك الترام مبكراً إلي الجيزة للذهاب إلي المدرسة السعيدية. وهذه السلسلة من المدارس المصرية القديمة السعيدية والنقراشي إلخ تستحق التوقف والتأمل والإشادة، فلم تستطع مدرسة مصرية تالية لهم في الزمن أن تخرج هذا المستوي من الكوادر الوطنية والإقليمية مثلما فعلت تلك المدارس التي كان مدرسيها من الشعراء والعلماء والفنانين الحقيقين وليسوا من الموظفين التقليدين. لم يذكر الأستاذ محفوظ وصفاً لفناء المدرسة لكني أتخيله مظللاً بالأشجار. الأشجار هي جدران البيئة الأكاديمية وهي وقود العقل العلمي.

يخرج الجد الأميرالاي عبد الله للسهر كل ليلة في نادي القمار بشارع عماد الدين، وهو بهذا الروتين قد امتلك صحة وحياة تقاعد يغبطه عليها الأوروبيون، أما شارع عماد الدين فهو ملهاة فنية حقيقة، لا يزال يذهلنا إمكانية وجودها العلني دون أسوار.

وعلي مقربة من نادي القمار، فجراً، يمسك مجموعة من السوقة افندياً يتضح انه الأب رؤبة لاظ، يوسعونه ضرباً وهو يتخبط بينهم هائجاً مترنحاً، وهو ما يوحي أن الأمر لم يكن مثالياً وأن الخطورة كانت قائمة أيضاً في الشوارع ولكن لننظر كيف هتف بهم الجد أن يكفوا عنه، وكيف مضي صوبهم غاضباً، وكيف لحق به شرطي علي الأثر، كل هذه دلائل (نظام) عمراني ما، فبرغم بعض الخطورة هناك إلا أن المجال لم يكن متروكاً للسوقة، ليس تماماً علي الأقل.

ولا تكاد تفوت رواية لنجيب محفوظ دون ذكر لميدان الإسماعيلية (التحرير) وجسر إسماعيل (قصر النيل). فهذه هي منطقة الحركة الرئيسية لمعظم أبطاله وله هو شخصياً في حياته الخاصة. ومن فوق جسر إسماعيل حاول كامل الأنتحار وفشل ماشياً علي الجسر إلي نهايته حيث عربة الجياد.

ولا تزال عربات الحنطور موجودة للاستخدام السياحي في محيط الجسر حتي الآن، ولكن بإنحدار شديد عام ومفهوم في المستوي، كما لم تعد الطريق مهيئة لاستقبال حركة الجياد بعد تنظيم الحارات الاسفلتية ولم يعد بإمكان الحانطور أن يمر دون أن يسبب عرقلة للمرور، كما ينبعث منه صخب مزعج ومنفر طول حركته.

ولعل أكبر إشارة إلي اتجاه النمو العمراني فهو الأتجاه الذي سارت فيه سيارة السيدة عنايات بعد ان التقطت كامل من قهوة النوبيين، اتجاه شارع الأهرام. هناك بين عمودين نور توقفت السيارة في الخلاء ليختليا ببعضهما. كان غرب القاهرة دائماً خالياً فلم يكن هناك بعد شارع الأهرام سوي القري قبل أن تلتحم هذه القري وتنشأ الفوضي الحالية.

واما طريقة لقاء كامل بعنايات فتستحق التوقف لوهلة. لقد اتخذ كامل من قهوة النوبيين مرتكزاً لمراقبة زوجته في عملها، فإذا به يجد الإغراء في السيدة عنايات الواقفة في الشرفة الأرضية المطلة علي القهوة، ولم ينل كامل مراهقاً تجربته الجنسية الأولي سوي في مجتمع خادمات المنيل، التجربة التي تركت بصمة لا تنمحي علي حياته التالية، فينشأ بينه وبينها حواراً بالنظرات والإيماءات. فكيف أمنت السيدة عنايات علي نفسها في هذه الشرفة المفتوحة القريبة من مجلس القهوة.

وربما كانت في الملاحظة الأخري الإجابة، وهي أن كل رواد المقهي من النوبيين كانوا يجلسون بالداخل، كامل فقط هو من جلس بالخارج تفادياً للاختلاط بهم. لكن هذا ليس سبباً قوياً، ولا مفر من الأعتراف بقلة التحرش وبقلة معدلات الجريمة وقلة الكثافة العمرانية والبشرية عموماً. فلم يعد هناك بد لكل صاحب(ة) شرفة أرضية الآن أن يغلق هذه الشرفة بالحواجز الحديدية ما أمكنه ذلك.

وبذكر السيدة عنايات فهذه فرصة لتأمل الهدوء الراكز المثير الذي أدار به الأستاذ محفوظ قصة الجنس في الرواية كلها وهي قصة قصبية ورئيسية، هدوء فني مبطن بخفة وعربدة الشوارع، وبما لا يخدش المحافظة المتوسطة المصرية كما تعودنا مع كتابة الأستاذ محفوظ، وهو خليط من الصراحة والرفعة يحفظ لهذه الكتابة حيوية ونضج دائمين في القرن الواحد والشعرين.

إن ما تطرحة هذه الورقة من خلال النظر لصورة عمران القاهرة في رواية السراب ليس نوستالجيا تراثية، وإنما هو احتفاء بزهرة عمر مدينة القاهرة، كمدينة في عنفوان شبابها، يتمتع سكانها، المتناسب عددهم ومقدراتهم مع مساحاتها، بأريج هذا الشباب الغض.

ومثل أي كائن حي، مضي العمر بالقاهرة بكل ما يحمله من تحولات وانقلابات، وبشكل لم يجعل مناص من الأعتراف بكل ما يصاحب هذا الأعتراف من أسي معاصرة الأخطاء الفادحة، وإحباط مآلات الأمور، وعجز إيقاف التدمير، أن هذا الشباب، قد مضي، للأبد.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *